نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة

          ░5▒ (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ) بسكون العين، والكراهة للتَّنزيه عند قَصْدِ محض السَّبب، وللتَّحريم عند قَصْدِ معناه الأصلي، وهو: الإبعاد من رحمة الله، ولا سيَّما في حقِّ من لا يستحقُّ اللَّعن كهذا الَّذي يحبُّ الله ورسوله، كما سيجيء (وَإِنَّهُ) أي: الشَّارب (لَيْسَ بِخَارِجٍ) بمعصيته بشربه / (مِنَ الْمِلَّةِ) كأنَّه أراد بهذه التَّرجمة إلى وجه التَّوفيق بين حديث الباب الَّذي فيه: النَّهي عن لعن الشَّارب وبين قوله صلعم : ((لا يشربُ الخمر وهو مؤمنٌ)) وقد مرَّ عن قريبٍ، وهو أنَّ المراد بحديث: ((لا يشربُ الخمر وهو مؤمنٌ)) نفي كمال الإيمان؛ لأنَّه يخرج عن الإيمان، وهو معنى قوله: ((وإنَّه ليس بخارجٍ عن المِلَّة)).
          وإذا لم يكن خارجًا لا يستحقُّ اللَّعن، وعبَّر بالكراهة إشارةً إلى أنَّ النَّهيَ للتَّنزيه في حقِّ من يستحقُّ اللَّعن إذا قصد به السَّب، وأمَّا إذا قصد معناه الأصلي، فيحرم ولاسيما فيمن لا يستحقُّ اللَّعن، ولاسيما مع إقامة الحدِّ عليه، بل يندب الدُّعاء له بالتَّوبة والمغفرة، وبسبب هذا التَّفصيل عدل عن قوله في التَّرجمة: كراهة لعن شارب الخمر، إلى قوله: ما يكره، فأشار بذلك إلى التَّفصيل.
          وعلى هذا التَّقرير، فلا حجَّة فيه لمن منع لعن الفاسق المُعْلِن مطلقًا، وقيل: إنَّ المنعَ خاصٌّ بما يقع في حضرة النَّبي صلعم ؛ لئلَّا يتوهَّم الشَّارب عند عدم الإنكار أنَّه مستحقٌّ لذلك، فربَّما أوقع الشَّيطان في قلبه ما يتمكَّن به من فتنته، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة ☺: ((لا تكونوا أعوانًا للشَّيطان على أخيكم)).
          وقيل: المنع مطلقًا في حقِّ من أُقِيمَ عليه الحدُّ؛ لأنَّ الحدَّ قد كفر عنه الذَّنبُ المذكور، وقيل: المَنْعُ مطلقًا في حقِّ ذي الزَّلة والجواز مطلقًا في حقِّ المجاهرين، وصوَّب ابن المنِّير أنَّ المنع مطلقًا في حقِّ المعيَّن، والجواز مطلقًا في حقِّ غير المعيَّن؛ لأنَّه في حقِّ المعيَّن أذى له وسَبٌّ، وقد ثَبَتَ النَّهيُ عن أذى المسلمين، وفي حقِّ غير المعيَّن زجرٌ له عن تعاطي ذلك الفعل.
          واحتجَّ من أجاز لعن المعيَّن بأنَّ النَّبيَّ صلعم إنَّما لعن من يستحقُّ اللَّعن، فيستوي المعيَّن وغيره، وتعقِّب: بأنَّه إنَّما يستحقُّ اللَّعن بوصف الإبهام، ولو كان لعنه قبل الحدِّ جائزًا لاستمرَّ بعد الحدِّ كما لا يسقط التَّغريب بعد الجلد.
          وأيضًا فنصيب غير المعيَّن من ذلك يسير جدًّا، واحتجَّ الإمام البُلْقِيْني على جواز لعن المعيَّن بالحديث الوارد في المرأة: ((إذا دعاها زوجُها إلى فراشه فأبتْ لَعَنَتْها الملائكةُ حتَّى تُصْبِحَ)). وتُعُقِّبَ: بأنَّ اللاعن لها الملائكة، فيتوقَّف الاستدلال به على جواز التَّأسي بهم، ولئن سلَّمنا فليس في الحديث تَسْمِيَتَها.
          وأُجيب: بأنَّ الكلَّ معصومٌ، والتَّأسي بالمعصوم مشروعٌ، والله أعلم، فليُتَأَمَّل.