غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري

          8 # إبراهيم بن سَعْد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف، أبو إسحاق الزُّهْريُّ، القُرَشيُّ المَدَنيُّ.
          هذا شارَكَ مَن قبلَه في اسمه، وكُنيته، ونِسْبته، واسم والده، وقَلَّ من يوجد مثله، وهذا ابن تلميذ الأوَّل(1) وهذا ضعَّفه بعضهم _كما ستعرف_ بخلاف الأوَّل، فإنَّه متَّفَق على إمامته وجلالته.
          نعم، وإن تُكلِّم فيه، فهو حُجَّة، ثقة، قدم بغداد على هارون الرَّشيد، فأكرمه، وولَّاه بيت المال.
          سمع: أباه والزُّهْرِيَّ أبا بكر، وصالحَ بن كَيْسَانَ(2)
          وسمع منه: يحيى بن قَزَعة(3) وموسى بن إسماعيل، ومحمَّد بن عُبيد الله، وإبراهيم بن حَمْزة، وابناه يعقوب وسَعْد، وأحمد بن يونس الكوفيُّ(4) وإسماعيل بن أبي أُويس _كما ظنَّه الغَسَّانِيُّ_ وعبد العزيز(5)
          روى عنه البخاريُّ بالواسطة(6) في [باب] تفاضُل أهل الإيمان [خ¦23] ، وغير موضع.
          ولد سنة عشر ومئة، ومات سنة ثلاث _وقيل: خمس_ وثمانين ومئة ببغداد، ودفن بمقبرة باب التِّين، وعمره بِضْع وسبعون.
          قال ابن حجر(7) قال صالح جَزَرة: كان صغيراً حين سمع من الزُّهْريِّ.
          يعني: أنَّه واهٍ في(8) الزهريِّ.
          قال (ابن) عَدِيٍّ: هو(9) من ثقات المسلمين. قال أحمد بن حنبل _لمَّا ذُكر عند يحيى بن سعيد إبراهيمُ بن سَعْد، وعُقَيلُ بن خالد الأيْليُّ، فجَعل يحيى يقول: عُقَيْل وإبراهيم، كأنَّه يضعِّفهما_: أيُّ شيء ينفع، أيُّ شيء ينفع؟! هذان ثقتان لم يَخْبُرْهما يحيى.
          وقال ابن عَدِيٍّ: كلامُ من تكلَّم فيه، فيه تَحامُل، وأحاديثه عن الزُّهريِّ مستقيمة.
          أخرج له الجماعة. قال ابن مَعِين: هو ثقة، حجَّة(10)
          وقد خرَّج له(11) البخاريُّ في الأصول.
          قال الإمام أحمد: كان وكيع كفَّ عن حديث إبراهيم، ثمَّ حدَّث عنه بعد. قلت: لِمَ؟ قال: لا أدري، إبراهيم ثقة. قال ابن(12) عديٍّ: من ثقات المسلمين، ولم يتخلَّف أحدٌ في الكتابة عنه بالكوفة والبصرة وبغداد، حدَّث عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد، والحسين بن سَيَّار، وبين وفاتيهما مئة واثنتا عشرة سنة(13) .
          - مهمَّة:
          قال ابن حجر(14) ينبغي لكلِّ مُنْصِف أن يعلم أنَّ تخريج البخاريِّ لأيِّ راوٍ(15) كان، مقتضٍ لعدالته(16) عنده وصحَّة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيَّما ما انضاف إلى ذلك من إطلاق جمهور الأئمَّة على تسمية(17) الكتابين البخاريِّ ومسلم بالصَّحيحين، وهذا المعنى لم يحصل لغير من خرَّج(18) عنه في الصَّحيح، فهو بمثابة إطلاق الجمهور على تعديل من ذُكر فيها، هذا إذا خرَّج له في الأصول، فأمَّا إنْ خرَّج له في المتابعات والشَّواهد والتَّعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضَّبْط وغيره، مع حصول اسم الصِّدق لهم كلِّهم، وحينئذٍ إذا وجدنا لغيره في [باب] أحد منهم طعناً، فذلك الطَّعن يقابل تعديل هذا الإمام، فلا يقبل منه / إلَّا ببيان(19) السَّبب مفصَّلاً مفسَّراً بقادح يقدح في عدالة هذا الرَّاوي، و في ضبطه مطلقاً، أو في خبر بعينه؛ لأنَّ الأسباب الحاملة للأئمَّة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لم يقدح، وقد كان الشَّيخ أبو الحَسَن المَقْدِسيُّ يقول في الرَّجل الذي خرَّج عنه [في] الصَّحيح: إنَّه جاز القَنْطَرة، يعني بذلك أنَّه لا يُلتفت إلى ما قيل فيه.
          قال أبو الفَتْح القُشَيريُّ: هكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نَخرُج عنه إلَّا بحجَّة ظاهرة، وسببٍ واضح(20)
          ومَدار الأسباب خمسة:
          البدعة، المخالفة، الغلط، جهالة الحال، دعوَى الانقطاع في السَّند؛ بأن يدَّعي أنَّ الرَّاوي يدلِّس، أو يُرسل.
          فأمَّا جهالة الحال: فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصَّحيح؛ إذ مِن شَرْطِه أن يكون الرَّاوي معروفاً، فمن زعَم أنَّ فيهم مجهولاً، فكأنَّه ينازع البخاريَّ في دعواه، ولا شكَّ أنَّ مُدَّعِي المعرفةِ مقدَّم على مدَّعي الجَهالةِ؛ لِما معه من زيادة العلم، ومع ذلك، فليس في رجال البخاريِّ من يُطْلَق اسم الجَهالة عليه أصلاً.
          وأمَّا الغلط: فتارةً يَكْثُر من الرَّاوي، وأخرى يَقِلُّ، فحيث يوصف بكونه كثيرَ الغلط، نُظر فيما خُرِّج، فإن وجد مرويًّا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط اعلم(21) أنَّ المعتمد أَصْلُ الحديث، لا خصوص هذا الطَّريق، وإن لم يوجد إلَّا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقُّف عن الحكم بصحَّة ما هذا سبيلُه، وليس في الصَّحيح بحمد الله من ذلك شيء.
          وحيث يوصَف بقلَّة الغلط، كما يقال: سيِّءُ الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير، أو غير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله؛ إلَّا أنَّ الرِّواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند البخاريِّ من الرِّواية عن أولئك.
          وأمَّا المخالفة كالشُّذوذ والنَّكارة: فإذا روى الضَّابط أو الصَّدوق شيئاً، فرواه من هو أحفظُ منه، أو أكثر عدداً بخلاف ما روى؛ بحيث يتعذَّر الجَمْعُ على قواعد المحدِّثين، فهذا شاذٌّ، وقد تشتدُّ المخالفة، أو يضعف الحفظ، فيُحكَم على ما يخالف فيه بكونه منكَراً؛ وهذا ليس في الصَّحيح منه سوى نَزْرٍ(22) يسير. قاله ابن حجر.
          قال(23) وأمَّا دعوى الانقطاع: فمدفوعة(24) عمَّن أخرج لهم البخاريُّ؛ لِما عُلم من شَرْطه، ومع ذلك، فحُكْم من ذُكر من رجاله بتدليس أو إرسال(25) أن تُسبر أحاديثُهم الموجودة عنده بالعنعنة، فإن وجد التَّصريحُ فيها بالسَّماع اندفع الاعتراض، وإلَّا فلا.
          وأمَّا البدعة: فالموصوف بها إمَّا أن يكون ممَّن يكفَّر بها أو يفسَّق، فالمُكَفَّرُ بها / لا بدَّ أن يكون ذلك التَّكفير متَّفقاً عليه من قواعد جميع الأئمَّة، كما في غُلاة الرَّوافض من دَعْوَى بعضهم حلول الإلهيَّة في عليٍّ، أو غيره، أو الإيمان برجوع عليٍّ إلى الدُّنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك، فليس في الصَّحيح من حديث هؤلاء شيء البتَّة.
          والمفسَّق بها، كبدع الخوارج والرَّوافض الذين لا يَغْلُون ذلك الغُلُوَّ، وغير هؤلاء من الطَّوائف المخالفين لأصول السُّنَّة خلافاً ظاهراً، لكنَّه مُستنِد إلى تأويل ظاهر سائغ، فقد اختلف أهل السُّنَّة في قبول حديث مَنْ هذا سبيلُه، إذا كان معروفاً بالتحرُّز عن الكذب، مشهوراً بالسَّلامة عن خَوَارم المروءة، موصوفاً بالدِّيانة والعبادة، فقيل يُرَدُّ(26) مُطْلَقاً. وقيل: يُقْبَل مطلقاً. والثَّالث: التَّفصيل بين أن يكون داعيةً لبدعةٍ(27) أو لا، فيُقبل حديثُ غير الدَّاعية، ويردُّ حديث الدَّاعية، وهذا المذهب هو الأعدل الذي عليه الأكثرون، وادَّعى ابن(28) حِبَّان إجماعَ أهل النَّقْلِ(29) عليه، لكن في دعوَى ذلك نظر.
          ثمَّ اختلف القائلون بهذا التَّفصيل، فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاد تفصيلاً، فقال: إن اشتملت رواية غير الدَّاعية على ما يشيد بدعته ويزيِّنه ويحسِّنه ظاهراً، فلا يُقبَل [منه] ، وإن لم يشتمل فيُقبَل(30) وطَرَد بعضُهم هذا التَّفصيل بعينه، وعَكَسه في حقِّ الدَّاعية، فقال: إن اشتملت روايته على ما يردُّ به بدعته قُبلت، وإلَّا فلا، وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدِع _سواء كان داعيةً أو لم يكن_ على ما لا تَعَلُّق له ببدعته أصلاً، هل يُقبل مطلقاً أو يُرَدُّ مطلقاً؟
          ومال أبو الفَتْح القُشَيْريُّ(31) إلى تفصيلٍ آخر فيه، فقال: إن وافقه غيرُه فلا يلتفت إليه إخماداً لفتنته، وإطفاءً لناره، وإن لم يوافقه أحدٌ ولم يوجد ذلك الحديثُ إلَّا عنده، مع ما وَصَفْنا في صِدْقه وتحرُّزه عن الكذب، واشتهاره بالتديُّن، وعدم تعلُّق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي تقديم(32) مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونَشْر تلك السُّنَّة على مصلحة إهانته، وإطفاء بدعته.
          واعلم أنَّه قد وقع من جماعة الطَّعْنُ في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التَّنبيه لذلك، وعدم الاعتداد(33) به إلَّا بحقٍّ، ولذا عاب جماعةٌ من الورعين جماعةً دخلوا في أمر الدُّنيا، فضعَّفوهم لذلك، ولا أَثَرَ لذلك التَّضعيف مع الصِّدق والضَّبط، وأبعدُ من ذلك كلِّه تضعيفُ من ضعَّف بعض(34) الرُّواة بأمر يكون الحملُ فيه على غيره، والتَّحامل بين الأقران، وأشدُّ من ذلك تضعيفُ من ضعَّف مَن هو أوثقُ منه، أو أعلى قَدْراً(35) وأعرف بالحديث، فكلُّ هذا لا يُعتنى به، فتنبَّه / لذلك، واشدُدْ يديك على هذه المُهِمَّة، فإنَّها من الأصول المُهِمَّات، والقواعد المُتِمَّات، والله الهادي للصَّواب.


[1] يعني أنَّ سعد بن إبراهيم تلميذه، وهو ابن أخته وهذا ابنه، فصار ابن ابنِ أخت إبراهيم بن سعد بن أبي وقَّاص.
[2] وسمع أيضًا شعبة بن الحجَّاج، كما في الصحيح: (5295)، والوليد بن كثير، كما في الصحيح: (3110)، وأخرج له البخاري عن محمَّد بن إسحاق تعليقًا بعد الحديث رقم: (1774).
[3] في غير (ن): تأخر قوله (وابناه... الكوفي) إلى ما بعد قوله (الغساني). وتحرفت في (ن) إلى (الغاني)
[4] تكرر (واحد) في (ن).
[5] وسمع منه أيضًا: الحُميدي كما في الصحيح (3659)، والقعنبي كما في الصحيح: (424)، وأبو الوليد الطيالسي كما في الصحيح: (849)، ويسرة بن صفوان اللخمي كما في الصحيح: (4433)، وأحمد بن محمَّد المكِّي كما في الصحيح: (1274)، ومحمَّد بن عَبد الله بن حوشب كما في الصحيح: (4586).
[6] في (ن) تصحيفاً: (بالأوسطة) والمثبت من غيرها.
[7] مقدمة الفتح: ص388.
[8] في (ن) تصحيفاً: (من) والمثبت من غيرها.
[9] سقطت: (هو) من (س).
[10] سقطت: (حجَّة) من (س).
[11] في (ن): (خرَّجه) والمثبت من غيرها.
[12] في (ن) تصحيفاً: (أبي).
[13] العبارة الأخيرة في (ن): (وبين وفاتهما مئة واثني عشر سنة) والمثبت من غيرها.
[14] مقدمة الفتح: ص384.
[15] في (ن) تصحيفاً: (راد) والمثبت من غيرها.
[16] في (ن) تصحيفاً: (بعدالته) والمثبت من غيرها.
[17] في (ن) تصحيفاً: (نسبته) والمثبت من غيرها.
[18] في (ه) (خرجه) وفي فتح الباري:1/384: (إطباق) بدل (إطلاق).
[19] في (ه) (بيان)، و كلمة (في) بين حاصرتين بعده من مقدمة فتح الباري: ص384.
[20] الاقتراح: ص 55.
[21] في غير (ن): (عُلم).
[22] في (س) (نذر).
[23] سقطت (قال) من (س) وقول ابن حجر هذا والذي قبله في مقدمة الفتح: ص384-385.
[24] في (ه): (فمرفوعة).
[25] في (ه): (وإرسال).
[26] في (ه): (برده).
[27] في (ن) تصحيفاً: (لداعيه) والمثبت من غيرها.
[28] في (ن) تصحيفاً: (ان) والمثبت من غيرها.
[29] في (ن) تصحيفاً: (العقل) والمثبت من غيرها.
[30] في (ه): (فقُبِل) وفي (ف): (يقبل).
[31] الاقتراح ص59.
[32] في (ن): (تقدُّم) والمثبت من غيرها.
[33] في (ن) تصحيفاً: (الاعتذار) والمثبت من غيرها.
[34] سقطت: (بعض) من (س).
[35] في (س): (أو على قدر).