غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

أنس بن مالك بن النضر

          118 # أنس بن مالك بن النَّضْر، أبو حمزة النجَّاريُّ، الخزرجيُّ، الأنصاريُّ، الصَّحابيُّ، خادم النَّبيِّ صلعم.
          وهو أخو البَرَاء بن مالك، البطلِ، الشُّجاعِ، الذي أبلى يوم اليَمَامة بلاءً حسناً، أكثر من ثمانين جرحاً(1)
          خَدَم أنسٌ النَّبيَّ صلعم عشر سنين، ولمَّا وَرَد المدينةَ كان عمره عشر سنين، وكان يتسمَّى بخادم النَّبيِّ صلعم، وكان يفتخر به، ويا لها من مفخرةٍ! وكنَّاه النَّبيُّ صلعم أبا حمزة؛ ببقلةٍ كان يجتنيها، وأمُّه أمُّ سُلَيم بنت مِلْحان، الغُمَيصاء أو الرُّمَيصاء، بالتَّصغير فيهما، إحدى عجائز الجنَّة، وسيأتي مناقبها إن شاء الله تعالى.
          قال ابن الأثير(2) كان يَخضِب بالصُّفْرة، وقيل: بالحِنَّاء. وقيل: بالوَرْس. وكان يخلِّق ذراعَيه بخَلُوق؛ لِلُمْعَةِ بياضٍ كانت به، وكانت له ذُؤَابة، فأراد أن يَجُزَّها، فنهته أمُّه، وقالت: كان النَّبيُّ صلعم يمدُّها ويأخذ بها(3) وكان النَّبيُّ صلعم يقول: «يا ذا الأُذنَين»(4) لأجل الذُّؤابَتَين.
          وقيل لأنسٍ: أشهدتَ بدراً؟ قال: لا أُمَّ لك! وأين غِبْتُ عن بدرٍ؟! وخرَج في خدمته إلى / بدر.
          ولمَّا وَرَد رسول الله صلعم المدينةَ أتت به أمُّه، وقالت: يا رسول الله! أنسٌ خُوَيدمُك، ادعُ الله له. فقال: «اللَّهمَّ بارِكْ له في مالِه ووَلدِه، وأَطِلْ عمرَه، واغفرْ ذنبَه»(5) فقال أنس: لقد دُفن من صُلْبي مئة إلَّا اثنين، وإنَّ ثمرتي لتحمل في السَّنة مرَّتين، ولقد بقيتُ(6) حتَّى سئمتُ من الحياة، وأنا أرجو الرَّابعة. يعني المغفرة. قاله الكِرْمانيُّ(7)
          وقال: إنه عُمِّر مئة سنة، وقيل: أكثر. وهو آخِر مَن مات من الصَّحابة بالبصرة، وغسَّله محمَّد بن سِيرين، ودُفن في قصره على نحو فَرسخٍ ونصف من البصرة. قاله الكِرمانيُّ.
          وقال ابن الأثير(8) على فرسخين.
          رَوَى ألفَي حديثٍ، ومئتي حديث، وستَّة وثلاثين حديثاً. قاله الكِرمانيُّ، وقال ابن حزم: ستَّة وثمانين حديثاً. وقيل: ستَّة وتسعين(9) حديثاً. قال(10) الكِرمانيُّ: روى البخاريُّ منها مئتين وأحداً وخمسين حديثاً.
          وقال ابن حجر(11) مئتين وثمانية وستِّين حديثاً. قال الحُميديُّ: إنَّما اختُلف في العِدَّة، لأنَّه يَعُدُّ الحديثَين إذا تقارَبَت ألفاظُهما حديثاً واحداً، كما في حديث الزُّهريِّ عن أنس: «لم يَكن أحدٌ أشبَهَ بالنَّبيِّ صلعم من الحَسَن بن عليٍّ» [خ¦3752] . وفي حديث ابن سيرين، عن أنسٍ، في الحسين بن عليٍّ(12) «كان أشبههم برسول الله صلعم » [خ¦3748] . فإنَّه(13) يعُدُّهما حديثاً واحداً، مع اختلافهما في اللَّفظ والمعنى. قال: ويَقَع له عكسُ ذلك، فلذا لم أقلِّده فيما عَدَّه.
          قال ابن الأثير(14) كان لأنس بستان فيه رَيحان يجيء منه رائحة المسك.
          وكانت له أرضٌ، فشكى قيِّمُها عطشَها، فصلَّى أنس، وقال: هل ترى شيئاً؟ فقال: لا. ثمَّ صلَّى، فقال: هل ترى شيئاً؟ فقال: أرى مثلَ جناح الطَّائر من السَّحاب. فجعل يصلِّي ويدعو، حتَّى مطرت السَّماء، ورَوِيت الأرض، فقال أنس: انظُرْه أين بلغ المطر؟ فنظر، فقال: لم يجاوزْ أرضَك.
          وكان ☺ مجابَ الدَّعوة، ولمَّا حضرته الوفاة وصَّى أن يغسِلَه محمَّد بن سِيرين مولاه، ويصلِّي عليه، ففعل، وجعل في حَنُوطه صرَّة مِسْك، وشَعراً من شَعر رسول الله صلعم، ثمَّ عاد محمَّد إلى السِّجن، فإنَّه كان مسجوناً من قِبَل الحَجَّاج.
          ولمَّا دخل أنسٌ على الحَجَّاج استخفَّ به وسبَّه، وختَم في عنقه أو يدِه برَصاص، وقال: يا خُبثةُ! شيخٌ نَقَّالٌ(15) في الفتن، تارةً مع ابن الزُّبير، وتارةً مع ابن الأشعث، واللهِ لأَجرُدَنَّك جَرْدَ الضَّبِّ(16) ولأَحْزِمَنَّك حَزْم السَّلَمة. فكتَب أنسٌ إلى عبد الملك يَشكُوه، فوَرَد كتابُ عبد الملك يتهدَّد الحَجَّاجَ فيه، ويتوعَّده، فقال أنس للحَجَّاج: واللهِ، لو أنَّ النَّصارى رأوا رجلاً خدم المسيحَ يوماً لأكرموه وعظَّموه، وأنت لم تحفظ خدمتي لرسول الله صلعم عشرَ سنين. فلم يزل مُكرَماً بعدَ ذلك عنده.
          قال أنس: ارتقى النَّبيُّ صلعم على المنبر درجةً، فقال: «آمين». فقيل له: علامَ أمَّنت يا رسول الله؟ قال: «أتاني جبريلُ فقال: رَغِم أنفُ مَن أدرك رمضانَ، فلم يُغفر له، قل: آمين».
          وكان الحَجَّاج بن يوسف خَتَم في عنق أنس، أراد أن يذلَّه بذلك، كما فعل بِسَهْل(17) بن سَعْد السَّاعديِّ وغيره من الصَّحابة.
          وكان مع أنس عُصَيَّة لرسول الله صلعم، فلمَّا مات أمر أن تُدفَن معه، فدفنت معه بين جنبه(18) وقميصه.
          قال أنس: خدمتُ النَّبيَّ صلعم عشر سنين، فما قال لشيء فعلتُه: «لمَ فعلتَه؟!» ولا لشيء تركتُه: «هلَّا فعلتَه؟!» وربَّما وبَّخني بعض أهله، وكان يقول: «مهلاً، لو قُدِّرَ له لَفَعل(19) .
          ودعا له، فوُلد لصُلبه ثمانون ذكراً.
          قيل: كان أنس يرمي النُّشَّابَ مع ثمانين(20) من ولده، وكان يغلبهم كلَّهم بكثرة إصابته، وكان من الرُّماة المصيبين. /
          قال الكِرمانيُّ(21) كان أنس يطوف بالبيت، ومعه (من) ذرِّيَّته أكثر من سبعين نفساً. قاله في كتاب الدَّعوات.
          وقال ابن دَقيق العيد في «شرح العمدة» في باب الاستطابة(22) وُلد لأنس أولاد كثيرة، يقال: ثمانون ولداً، ثمانية وسبعون ذَكَراً، واثنان أنثى.
          ثمَّ قال: قال أنس: حدَّثتني بنتي(23) أنَّه دُفن لصُلْبي إلى مَقدَم الحَجَّاجِ البصرةَ بضع وعشرون ومئة.
          وقال النَّوويُّ(24) في «الأذكار»، في باب الجنائز(25) مات لأنس في الطَّاعون ثلاثة وثمانون ابناً، وقيل: ثلاثة وسبعون.
          قال الدَّمِيْريُّ: كان لأنس عشرةٌ، كلُّهم حَمَلوا العلم: النَّضْر، وموسى، وعبد الله، وعُبيد الله، وزيد، وأبو بكر، وعُمر، ومالك، وثُمَامة، ومَعْبَد.
          قال ابن الأثير(26) مات له من ولده، وولد ولده مئة وعشرون ولداً، وكان نقش خاتمه صورة أسد رابض، وكان يشدُّ أسنانه بالذَّهب، ويلبس الخَزَّ، ويتعمَّم.
          وتوفِّي سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وتسعين(27) عن مئة سنة، وثلاث أو سبع أو عشر سنين، وصلَّى عليه قَطَن بن مُدْرِك الكِلَابيُّ.
          فائدة:
          آخر مَن مات من الصَّحابة على الإطلاق:
          أبو الطُّفيل عامر بن واثِلة اللَّيثيُّ، بمكَّة المشرَّفة، سنةَ مئة، أو بضع ومئة، أو عشر ومئة.
          وبالمدينة: محمود بن الرَّبيع، على الصَّحيح، وقيل: سَهْل بن سَعْد السَّاعديُّ. وقيل: السَّائب بن يزيد. وقيل: جابر بن عبد الله.
          وبالبصرة: أنس بن مالك، ولذلك كان أنس يقول _كما روى عنه البخاريُّ في كتاب التَّفسير من صحيحه [خ¦4489]_: لم يَبقَ ممَّن صلَّى إلى القبلَتَين غَيري.
          وبالكوفة: عبد الله بن أبي أَوفى، سنة ستٍّ وثمانين.
          وبدمشق: واثِلة بن الأَسْقَع.
          وبحِمْصَ: عبد الله بن بُسْر، وقيل: أبو أُمَامة الباهليُّ.
          وبالبَادية: سَلَمة بن الأَكْوع، على قول.
          وبالطَّائف: عبد الله بن العبَّاس(28)
          تتمَّة:
          روى أنسٌ عن: أبي بكر الصِّدِّيق، ومعاذ، وأبي ذرٍّ، وثابت بن قيس بن شَمَّاس(29) وغيرهم.
          روى(30) عنه: الزُّهريُّ، ويحيى بن سعيد، والحسن، وقتادة، وثابت البُنَانيُّ، (وبَيَان)(31) وحُمَيْد الطَّويل، وعبد العزيز بن رُفَيْع، وسليمان التَّيْميُّ، وابن سِيْرِيْن.
          روى عنه البخاريُّ بالواسطة في مواضع، أوَّلها: باب من الإيمان أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، من كتاب الإيمان [خ¦13] .


[1] هكذا في الأصول ولعله سقطت منه كلمة (جرح) قبله.
[2] أسد الغابة:1/ 193.
[3] أبو داود (4196).
[4] المسند (12164)، وأبو داود (5002)، والتِّرمذيُّ (1992)، قال التِّرمذيُّ: حسن صحيح غريب.
[5] أخرجه أبو يعلى في مسنده برقم (4126).
[6] في (ن) تصحيفاً: (تعبت).
[7] شرح البخاريِّ:1/ 95، وكذلك سائر النقل عنه هنا.
[8] أسد الغابة:1/ 195.
[9] في غير (ن): (وستين).
[10] في (ن) تصحيفاً: (قاله) وكذلك (إحدى) بدل (وأحداً).
[11] مقدمة الفتح: ص474.
[12] في الأصول (الحسن بن علي) والتصويب من الصحيح.
[13] في (ن) تصحيفاً: (فإن).
[14] أسد الغابة:1/ 193.
[15] تصحفت في غير (س) إلى: (فقال).
[16] أي لأَسْلخنَّك سَلْخ الضَّبِّ. (اللسان: جرد). والسَّلَمة نوع من الشَّجر، كانوا إذا أرادوا قطعها عَصَبوا أغصانها عصباً شديدًا، انظر مجمع الأمثال:2/ 17.
[17] في (ن) تصحيفاً: (سهل)
[18] في (ن) تصحيفاً: (جنبيه)
[19] في (س): (لعقل)، والحديث بمعناه أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (11988)، والبخاريُّ (2768)، ومسلم (2309)، والقسم الأخير منه أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم (13418).
[20] في غير (ن): (الثمانين).
[21] شرح البخاريِّ:22/ 143.
[22] إحكام الأحكام:1/ 49.
[23] في غير (ن): (ابنتي).
[24] في (ن) تصحيفاً: (النوري).
[25] الأذكار: ص208.
[26] أسد الغابة:1/ 194.
[27] في غير (ن) هنا زيادة: (سنة).
[28] في غير (ن): (عباس).
[29] في (ن) تصحيفاً: (سماس).
[30] في غير (ن): (وروى).
[31] هو بَيَان بن بِشْر الأحمسيُّ البَجَليُّ، ستأتي ترجمته إن شاء الله.