إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: بعثت أنا والساعة كهاتين

          6505- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ) أبو زكريَّا الزَّمِّي(1) قال: (أَخْبَرَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (أَبُو بَكْرٍ) هو ابنُ عيَّاشٍ، بالتحتية المشددة آخره شين معجمة (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، عثمان بن عاصم (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان الزَّيَّات (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه(2) (قَالَ: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ) بالرَّفع في «اليونينيَّة» (كَهَاتَيْنِ. يَعْنِي: إِصْبَعَيْنِ) وعند الطَّبريِّ: عن هنَّاد بن السَّري، عن أبي بكر بن عيَّاشٍ: «وأشار بالسَّبَّابة والوسطى». بدل قوله: «يعني: إصبعين» (تَابَعَهُ) أي: تابع أبا بكرٍ (إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيُّ (عَنْ أَبِي حَصِينٍ) يعني: سندًا ومتنًا، وقد وصلها الإسماعيليُّ.
          قال الكِرمانيُّ: قيل: هو إشارة إلى قُرب المجاورة، وقيل: إلى تقَارُب ما بينهما طولًا، وفضل الوسطى على السَّبَّابة؛ لأنَّها أطولُ منها بشيءٍ يسيرٍ(3)، فالوجه الأوَّل بالنَّظر إلى العرض، والثَّاني بالنَّظر إلى الطُّول، وقيل: أي: ليس بينه وبين السَّاعة نبيٌّ غيره مع التَّقريب لحينها. انتهى.
          والَّذي يتَّجه القول بأنَّه إشارة إلى قُرب ما بينهما، ولو كان المراد قُرب المجاورة لقامتِ السَّاعة؛ لاتِّصال إحدى الإصبعين بالأُخرى.
          وقال السَّفاقسيُّ: قيل: قوله: «كما بين السَّبَّابة والوسطى» أي: في الطُّول، وقال في «المفهم»: على رواية نصب «والسَّاعةَ» يكون التَّشبيه وقع بالانضمامِ، وعلى الرَّفع بالتَّفاوت. وفي «تذكرة القُرطبي»: المعنى: تقريب أمر السَّاعة. قال: ولا مُنافاةَ بينه وبين قولهِ في الحديثِ الآخر: «ما المسؤولُ عنها بأعلَم من السَّائلِ» فإنَّ المراد بحديثِ الباب أنَّه ليس بينه وبينها نبيٌّ، كما ليسَ بين السَّبَّابة والوسطى(4) إصبعٌ أُخرى، ولا يَلزم منه علم وقتها بعينه، نعم سياقه يُفيد قُربها وأنَّ(5) أشراطَها متتابعةٌ.
          وقال الضَّحَّاك: أوَّل أشراطِها بعثةُ محمَّد صلعم ، وقد قيل: إنَّ نسبةَ ما بين الإصبعين‼ كنسبةِ ما بقي من الدُّنيا إلى(6) ما مضى، وأنَّ جُملتها سبعة آلاف سنةٍ، كما قال ابن جريرٍ في «مقدمة تاريخه» عن ابن عبَّاسٍ، من طريق يحيى بن يعقوب، عن حمَّاد بن أبي سليمان، عن سعيد بن جُبيرٍ، عنه: «الدُّنيا جُمُعَةٌ من جُمَعِ الآخرة سبعةُ آلاف سنة». بالموحدة بعدها عين مهملة، وقد مضى ستَّة آلاف ومئة سنةٍ، ويحيى هو القاضي الأنصاريُّ، قال البخاريُّ: مُنكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة، وفيه مقالٌ. وفي حديثِ أبي داود: «واللهُ لا يُعجِزُ هذهِ الأمَّةَ من نصفِ يومٍ» ورُواته ثقات، لكن رجَّح البخاريُّ وقفَه. وعند أبي داودٍ أيضًا مرفوعًا: «لأرجُو أن لا يعْجِزَ أمَّتي عندَ ربِّها أن يؤخِّرهُم نصفَ يومٍ» وفسَّره بخمس مئة سنةٍ، فيؤخذُ من ذلك أنَّ الَّذي بقي نصف سُبْعٍ، وهو قريب ما بين السَّبَّابة والوسطى في الطُّول، لكنَّ الحديث وإن كان رُواته موثَّقين إلَّا أنَّ فيه انقطاعًا، وقد ظهرَ عدم صحَّة ذلك على ما لا يخفى؛ لوقوع خلافه ومُجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتًا لم يقعْ خلافه. وقال ابن العربيِّ: قيل: الوسطى تزيد على السَّبَّابة نصف سُبُعِها، وكذلك الباقي من الدُّنيا من البعثة إلى قيام السَّاعة، وهذا بعيدٌ ولا يُعْلَمُ(7) مقدارُ الدُّنيا، فكيف يتحصَّل لنا نصفُ سُبُعِ أَمَدٍ مجهولٍ؟!
          وفي «الصَّحيحين» من حديثِ ابن عمر مرفوعًا [خ¦3459] «أجَلكُم فِي أجلِ من كانَ قبلكُم من صلَاةِ العصرِ إلى مغربِ الشَّمسِ» وعند أحمد _بسندٍ حسنٍ_ من طريق مجاهدٍ، عن ابن عمر: «كنَّا عند النَّبيِّ صلعم والشَّمس على قُعَيْقِعَان مرتفعةٌ بعد العصرِ فقال: ما أعمَاركُم في أعمارِ من مضَى إلَّا كما بقيَ من هذا النَّهارِ فيما مضَى منهُ».
          قال في «الفتح»: وحديث ابنِ عمر صحيحٌ متَّفقٌ عليه، فالصَّواب الاعتمادُ عليه وله محملان:
          أحدُهما: أنَّ المراد بالتَّشبيه / : التَّقريب ولا يُراد حقيقة المقدار فيه.
          والثَّاني: أن يُحمَلَ على ظاهرهِ، فيكون فيه دَلالةٌ على أنَّ مدَّة هذه الأمَّة قدر خُمس النَّهار تقريبًا.
          وقال صاحب «الكشف»: إنَّ الَّذي دلَّت عليه الآثار أنَّ مدَّة هذه الأمَّة تزيدُ على ألف سنةٍ ولا تبلغ الزِّيادة عليها خمس مئة سنةٍ، وذلك أنَّه وردَ من طرق أنَّ مدَّة الدُّنيا سبعة آلاف سنةٍ، وأنَّ النَّبيَّ صلعم بُعث في آخر الألف السَّادسة، وورد أنَّ الدَّجَّال يخرج على رأس مئةٍ، ويَنْزِلُ عيسى ◙ فيقتلُه، ثمَّ يمكث في الأرض أربعين سنة، وأنَّ النَّاس يمكثون بعد طلوع الشَّمس من مَغْربها مئةً وعشرين سنة، وأنَّ بين النَّفختين أربعين سنةٍ، فهذه المئتا سنةٍ لابدَّ منها، والباقِي الآن من الألف سنة وسنتان، وإلى الآن لم تطلعِ الشَّمس من مَغْربها، ولا خرج الدَّجَّال الَّذي خُروجه قبل طلوع الشَّمس‼ بعدَّة سنين، ولا ظهر المهديُّ الَّذي ظُهوره قبل الدَّجَّال بسبع سنين، ولا وقعتِ الأشراطُ الَّتي قبل ظهور المهديِّ، ولا بقي ما يمكن خروجُ الدَّجَّال من قرنٍ؛ لأنَّه إنَّما يخرُج عند رأس مئةٍ، وقبله مُقدِّماتٍ تكون في سنين كثيرةٍ، فأقلُّ ما يكون أنَّه يجوزُ خروجه على رأسِ الألف إن لم يتأخَّر إلى مئةٍ بعدها، وإن اتَّفق خروجُه على رأسِ الألف مكثتِ الدُّنيا بعده أكثر من نحو مئتي(8) سنةٍ، المئتين المُشار إليهما والباقي ما بين خروج الدَّجَّال وطلوع الشَّمس من مَغْربها، ولا ندرِي كم هو؟ وإن تأخَّر الدَّجَّال عن رأسِ الألف إلى مئةٍ أُخرى كانت المدَّة أكثر، ولا يمكن أن تكون المدَّة ألفًا وخمس مئةٍ أصلًا، واستدلَّ بأحاديث ضعيفةٍ على عادته، قال: إنَّه اعتمدَ عليها في أنَّ مدَّة الدُّنيا سبعةُ آلاف سنةٍ، وأنَّ النَّبيَّ صلعم بُعث في آخرِ الألف السَّادسة؛ منها: حديث الضَّحَّاك بن زملٍ الجُهنيِّ، قال: «رأيتُ رؤيا فقصصتُها على رسولِ الله صلعم ... وفيه: فإذا أَنا بك يا رسولَ الله على منبرٍ فيه سبعُ درجاتٍ، وأنتَ في أعلاهَا درجة. فقال رسولُ الله صلعم : أمَّا(9) المنبرُ الَّذي رأيتَ فيه سبعَ درجاتٍ وأنا في أعلاها درجَة، فالدُّنيا سبعةُ آلافٍ وأنا في آخرهَا ألفًا» رواه البيهقيُّ في «دلائله»، فقولُه(10): «وأنا في آخرِهَا ألفًا» أي: معظم المدَّة في الألف السَّابعة؛ ليُطابق أنَّ بعثته(11) صلعم في أواخر الألف السَّادسة، ولو كان بُعث أوَّل الألف السَّابعة كانت الأشراطُ الكُبرى كالدَّجَّال وُجدت قبل اليوم بأكثر من مئة سنةٍ لتقوم السَّاعة عند تمام الألف، ولم يوجدْ شيءٌ من ذلك، فدلَّ على أنَّ الباقي من الألف السَّابعة أكثر من ثلاث مئة. انتهى.
          قلت: قال الحافظُ ابن حَجر: إنَّ سند هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، وأخرجه ابن السَّكن في «الصَّحابة» _وقال: إسنادهُ مجهولٌ، وليس ابن زملٍ بمعروفٍ في الصَّحابة_ وابن قتيبة في «غريب الحديث»، وأورده ابن الجوزيِّ في «الموضوعات».
          وقال ابنُ الأثير: ألفاظه مصنوعةٌ(12)، وقد أخبر مَعمر في «الجامع» عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال معمرٌ: بلغني عن عكرمةٍ في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4] قال: الدُّنيا من أوَّلها إلى آخرها يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ(13) لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلَّا الله تعالى.
          تنبيه: وأمَّا ما اشتُهر على الألسنة من أنَّ النَّبيَّ صلعم لا يمكث في قبره ألف سنةٍ، فباطلٌ لا أصل له، كما صرَّح به الشَّيخ عبد العزيز الدَّيرينيُّ في «الدُّرر الملتقطة في المسائل المختلطة» لكنَّه قال: إنَّه ممَّا نُقل عن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سَلَام وكعبٍ الأحبار. انتهى.
          ولا يصحُّ ذلك بل كلُّ ما ورد فيه تحديدٌ إمَّا أن يكون لا أصل له أو لا يثبتُ.
          وقال الحافظُ عماد الدِّين بن كثير‼ في «البداية» بعد أن ذكر حديث: «ألَا إنَّ مثلَ آجالكُم في آجالِ الأُممِ قبلكُم كما بينَ صلاةِ العَصرِ إلى مغربِ الشَّمسِ»: هذا يدلُّ على أنَّ ما بقي بالنِّسبة إلى ما مضى كالشَّيء اليسير، لكن لا يَعلم مقدار ما مَضى إلَّا الله ╡، ولم يجئْ فيه تحديدٌ يصحُّ سنده عن المعصوم(14) حتَّى يُصار إليه ويُعلم نسبة ما بقي بالنِّسبة إليه، ولكنَّه قليلٌ جدًّا بالنِّسبة إلى الماضي، وتعيين وقت السَّاعة لم يأتِ به حديثٌ صحيحٌ / ، بل الآيات والأحاديثُ دالَّةٌ على أنَّ علم ذلك ممَّا استأثرَ الله به دون أحدٍ من خلقهِ، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}[الأعراف:187] وقال صلعم : «ما المسؤولُ بأعلَم من السَّائلِ» فالخوض في ذلك لا يجدي نفعًا، ولا يأتي بطائلٍ، والله الموفِّق.


[1] في (د) زيادة: «النوسي».
[2] «أنه»: ليست في (د).
[3] في (د): «لأنَّها شيء يسير أطول منها» وهذا موافق للكواكب.
[4] في (د): «وبين الوسطى».
[5] في (د) زيادة: «أول».
[6] في (د): «بالنسبة إلى».
[7] في (ع): «نعلم».
[8] في (د): «مائتين».
[9] في (د): «وأما».
[10] في (د): «وقوله».
[11] في (ع) و(ص): «بعثه».
[12] في (ص): «موضوعة».
[13] «قال: الدنيا مِن أوَّلها إلى آخرها يوم كان مقداره خمسين ألف سنة»: ليست في (د).
[14] في (د): «معصوم».