إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة

          536- 537- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) ولأبي ذَرٍّ: ”بن عبد الله بن المدينيِّ“ (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيَيْنَةَ (قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ) وفي روايةٍ: ”عن الزُّهريِّ“ محمَّد بن مسلم بن شهابٍ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِذَا(1) اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ) ندبًا(2)، والمُراد: الظُّهر لأنَّها الصَّلاة(3) الَّتي يشتدُّ الحرُّ غالبًا في أوَّل وقتها (فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) فإن قلت: ظاهره يقتضي وجوب الإبراد، أُجيب بأنَّ القرينة صرفته إلى النَّدبيَّة(4) لأنَّ العلَّة فيه دفع المشقَّة عن المصلِّي لشدَّة الحرِّ، فصار من باب الشَّفقة والنَّفع، فإن قلت: ما الجمع بين هذا وبين حديث خبَّابٍ: «شكونا إلى رسول الله صلعم حرَّ الرَّمضاء فلم يُشْكِنا» أي: لم يُزِلْ شكوانا؟ أُجيب بأنَّ الإبراد رخصةٌ، والتَّقديم عزيمةٌ أفضل، أو(5) هو منسوخٌ بأحاديث الإبراد(6)، والإبراد مُستحَبٌّ لفعله ╕ له وأمره به، وحديث(7) خبَّابٍ محمولٌ على أنَّهم طلبوا زائدًا على قدر الإبراد لأنَّه بحيث يحصل للحيطان ظلٌّ يُمشى فيه. (وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا) شكايةً حقيقيَّةً(8) بلسان المقال بحياةٍ يخلقها الله تعالى فيها، قاله عياضٌ، وتعقَّبه الأُبِّيُّ بأنَّه لا بدَّ من خلق إدراكٍ مع الحياة. انتهى. لكن قال الأستاذ أبو الوليد الطَّرطوشيُّ(9) فيما نقله في «المصابيح»: وإذا قلنا بأنَّها حقيقيَّةٌ(10) فلا يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم، أمَّا في محاجَّة النَّار فلا بدَّ من وجود العلم مع الكلام؛ لأنَّ المحاجَّة تقتضي التَّفطُّن لوجه الدَّلالة، أو هي مجازيَّةٌ عرفيَّةٌ بلسان الحال عن لسان المقال كقوله:
شكا إليَّ جملي طول السُّـرَى
وقرَّر(11) البيضاويُّ ذلك فقال: «شكواها» مجازٌ عن غليانها، وأكل(12) بعضها بعضًا، أو مجازٌ عن ازدحام أجزائها، وتنفُّسها مجازٌ عن خروج ما يبرز منها، وصوَّب النَّوويُّ حملها على الحقيقة، وقال ابن المُنَيِّر: هو المختار، وقد ورد مُخاطَبتها للرَّسول صلعم وللمؤمنين بقولها(13): «جُزْ يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي» ويضعف حمل ذلك على المجاز قوله: (فَقَالَتْ: يَا رَبِّ) وللأربعة: ”فقالت: ربِّ“ (أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا) ربُّها تعالى (بِنَفَسَيْنِ) تثنية / نَفَسٍ بفتح الفاء، وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء (نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ) بجرِّ «نَفَسٍ» في الموضعين على البدل أو البيان، ويجوز رفعهما بتقدير «أحدهما»، ونصبهما(14) بـ «أعني» (فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ) أي: الَّذي تجدونه (مِنَ الحَرِّ) أي(15): من ذلك النَّفَس، وهذا لا يمكن الحمل معه على المجاز، ولو حملنا شكوى النَّار على المجاز لأنَّ(16) الإذن لها في التَّنفُّس ونشأة(17) شدَّة الحرِّ عنه لا يمكن فيه التَّجوُّز، والَّذي رويناه «أشدُّ» بالرَّفع مبتدأٌ محذوف الخبر، ويؤيِّده رواية النَّسائيِّ من وجهٍ آخر بلفظ: «فأشدُّ‼ ما تجدونه(18) من الحرِّ من حرِّ جهنَّم...» الحديثَ، أو خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فذلك أشدُّ، ويؤيِّده رواية غير أبوي ذَرٍّ والوقت والأَصيليِّ، وعزاها ابن حجرٍ لرواية الإسماعيليِّ من هذا الوجه: ”فهو أشدُّ“ ويجوز الجرُّ على البدل من السَّابق، وجُوِّز (19) النَّصب مفعول «تجدون» الواقع بعدهُ(20)، قال الدَّمامينيُّ: وفيه بُعْدٌ (وَأَشَدُّ) بالرَّفع أو الجرِّ أو النَّصب (مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ) من ذلك النَّفَس، ولا مانع من حصول الزَّمهرير من نَفَس النَّار لأنَّ المراد من النَّار محلُّها وهو جهنَّم، وفيها طبقةٌ زمهريريَّةٌ، والَّذي خلق الملك من الثَّلج والنَّار قادرٌ على جمع الضِّدَّين في محلٍّ واحدٍ، وفيه: أنَّ النَّار مخلوقةٌ موجودةٌ الآن، وهو أمرٌ قطعيٌّ للتَّواتر المعنويِّ خلافًا لمن قال من المعتزلة: إنَّها إنَّما تُخلَق يوم القيامة.
          ورواته خمسةٌ، وفيه: التَّحديث والقول والحفظ والعنعنة، وأخرجه النَّسائيُّ.


[1] في (م): «لمَّا».
[2] «ندبًا»: سقط من (د).
[3] «الصَّلاة»: سقط من (م).
[4] في (م): «النُّدبة».
[5] في (م): «و».
[6] «الإبراد»: سقط من (د).
[7] في (ب) و(س): «أو حديث»، ولعلها من تصحيحات القائمين على الطباعة، فهي الأنسب.
[8] في (ص) و(م): «حقيقة».
[9] في (د): «الطَّرطوسيُّ»، وهو تصحيفٌ.
[10] في (د): «حقيقة».
[11] في (ص): «قدَّر».
[12] في غير (ب) و(س): «أكلها».
[13] في (ص): «تقول».
[14] في (م): «أو نصبهما».
[15] «أي»: سقط من (د).
[16] في (ص): «كان».
[17] في (د): «النَّفَس ومنشأ».
[18] في غير (ص) و(م): «تجدون».
[19] في (ب) و(س): «ويجوز».
[20] في غير (د) و(م): «بعد».