إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كل أمتي معافى إلا المجاهرون

          6069- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الأويسيُّ قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين، ابن إبراهيم بنِ عبد الرَّحمن بنِ عوفٍ (عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) محمَّدِ بن عبد الله بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بنِ الخطَّاب، أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي) المسلمون (مُعَافًى) بضم الميم وفتح الفاء / مقصورًا، اسم مفعول من العافيةِ، أي: يُعفى عن ذَنْبهم(1) ولا يُؤاخذون به (إِلَّا المُجَاهِرونَ) بكسر الهاء، إلَّا المُعْلِنون بالفسقِ؛ لاستخفافِهم بحقِّ الله تعالى ورسولهِ وصالحِي(2) المؤمنين، وفيه ضربٌ من العناد لهم. وقوله: «المجاهرون» بالرَّفع وصحَّح عليه بالفرع، وهو رواية النَّسفيِّ، وشرحَ عليها ابنُ بطَّال والسَّفاقِسيُّ، وأجازهُ الكوفيُّون في الاستثناءِ المنقطعِ. وقال ابنُ مالكٍ: «إلَّا» على هذَا بمعنى لكنْ المجاهرون بالمعاصي لا يُعافَون، فالمجاهرون مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ. قال في «المصابيح»: هذا الباب الَّذي فتحَه ابن مالكٍ يؤدِّي إلى جواز الرَّفع في كلِّ مُستثنى من كلامٍ تامٍّ مُوجب، مثل: قام القوم إلَّا زيد؛ إذ يكون الواقع بعد إلَّا مرفوعًا بالابتداءِ والخبر محذوفٌ، وهو مقدَّر بنفي الحكم السَّابق، وينقلبُ كلُّ استثناءٍ متَّصل منقطعًا بهذا الاعتبار، ومثلُه غيرُ مستقيمٍ على ما لا يخفى. انتهى. وفي نسخة: ”إلَّا المجاهرين“ بالنَّصب، وعزاها الحافظُ ابن حجرٍ لأكثر رواة البخاريِّ و«مُسْتَخرَجي الإسماعيليِّ وأبي نُعيم» ومسلمٍ، وهو الصَّواب عند‼ البصريِّين. والمجاهر الَّذي يُظهر معصيتهُ ويكشفُ ما سترَ الله عليه فيحدِّث به.
          (وَإِنَّ مِنَ المَجَانَةِ) بفتح الميم والجيم وبعد الألف نون مخفَّفة، أي: عدمُ المبالاةِ بالقولِ والفعلِ، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”من المجاهرة“ بدل المجانة، وقد ضبَّب على المجانةِ في الفرع. وقال القاضي عياض: إنَّها تصحيفٌ، وإن كان معناها لا يبعدُ هنا لأنَّ الماجنَ(3) هو الَّذي يستهترُ(4) في أمورهِ(5)، وهو الَّذي لا يُبالي بما قال وما قيلَ له. وتعقَّبه في «فتح الباري» فقال: الَّذي يظهرُ رُجحان هذه الرواية(6)؛ لأنَّ الكلام المذكور بعدهُ لا يرتاب أحدٌ أنَّه من المجاهرةِ، فليس في إعادةِ ذكرهِ كبيرُ فائدةٍ، وأمَّا الرِّواية بلفظ المجانة، فيفيدُ معنًى زائدًا وهو أنَّ الَّذي يجاهرُ بالمعصيةِ يكون من جملةِ المُجَّانِ(7)، والمجانَةُ مذمومةٌ شرعًا وعرفًا، فيكون الَّذي يُظهرُ المعصية قد ارتكبَ محذورين إظهار المعصيةِ وتلبُّسه بفعل المُجَّانِ (أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا) أي: معصيةً (ثُمَّ يُصْبِحَ) يدخل في الصَّباح (وَقَدْ) أي: والحال أنَّه قد (سَتَرَهُ اللهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”وقد سترهُ اللهُ عليه“ (فَيَقُولَ) لغيره: (يَا فُلَانُ عَمِلْتُ) بضم التاء (البَارِحَةَ) هي أقربُ ليلةٍ مضت من وقت القولِ، وأصلها من برحَ إذا زال (كَذَا وَكَذَا) من المعصيةِ (وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ).
          وفي حديث ابنِ عمر مرفوعًا عند الحاكم: «اجتنبُوا هذهِ القاذوراتِ الَّتي نهى الله عنها، فمَن ألمَّ بشيءٍ منها فليستترْ بسترِ الله».


[1] في (ص): «ذنوبهم».
[2] في (ع) و(د): «وبرسوله وبصالح»، وفي (ص): «ورسوله ومصالح».
[3] في (ل): «المجان».
[4] في (د) و(ع): «يشتهر»، وفي (ص): «يستهتي».
[5] في (ص) زيادة: «قال في «المصابيح» مجن مجونًا هزل في أموره».
[6] في (س): «يظهر رجحانه».
[7] قوله: «فيفيد معنًى زائدًا؛ وهو أنَّ الذي يجاهر بالمعصية؛ يكون من جملة المجان»: ليس في (س).