إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: جعل الله الرحمة مئة جزء فأمسك عنده تسعةً وتسعين

          6000- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحَكَمُ) بفتحتين، ولأبي ذرٍّ: ”أبو اليمان الحكم“ (بْنُ نَافِعٍ البَهْرَانِيُّ) بفتح الموحدة وسكون الهاء، نسبة إلى قبيلةٍ من قُضاعة ينتهي نسبُهم إلى بهر بنِ عَمرو بن الحَافِ بن قُضَاعة، وهذه اللَّفظة ثابتة في رواية أبي ذرٍّ، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابنُ أبي حمزة (عَنِ الزُّهريِّ) محمَّد بنِ مسلمٍ قال: (أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ) بفتح التحتية المشدَّدة، ابن حَزْنٍ الإمام، أبو محمَّدٍ المخزوميُّ، أحدُ الأعلام وسيِّد التَّابعين (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِئَةَ جُزْءٍ) وفي حديث سلمان _عند مسلم_: «إنَّ الله خلقَ مئةَ رحمةٍ يومَ خلقَ السَّموات والأرضَ كلُّ رحمةٍ طِباقُ ما بين السَّماء والأرض...» الحديث. وخلق، أي: اخترع وأوجد، والمراد بقوله: «كلُّ رحمةٍ طباق...» إلى آخره التَّعظيم والتَّكثير، ولأبي ذرٍّ: ”في مئةِ جزء“ بزيادة: «في». قال في «الكواكب»: هي ظرفيَّة يتمُّ المعنى بدونها، أو متعلِّقة بمحذوفٍ، وفيه نوعُ مبالغةٍ حيث جعلها مظروفًا لها؛ يعني بحيث لا يفوتُ منها شيءٌ، ورحمةُ الله غيرُ متناهيةٍ لا مئة ولا مئتان، لكنَّها عبارة عن القدرةِ المتعلِّقة بإيصالِ الخير، والقدرةُ صفةٌ واحدة، والتَّعلُّق غير متناهٍ، فحصره في مئة على سبيل التَّمثيل تسهيلًا للفَهم، وتقليلًا لِمَا عندنا، وتكثيرًا لِمَا عنده سبحانه وتعالى، وهل المراد بالمئة التَّكثير والمبالغة أو الحقيقة، فيحتملُ أن تكون(1) مناسبةً لعَدَدِ دَرَجِ الجنَّة، والجنَّة هي محلُّ الرَّحمة فكانت كلُّ رحمةٍ بإزاء درجةٍ، وقد ثبت أنَّه لا يدخل أحدٌ الجنَّة‼ إلَّا برحمةِ الله، فمن نالته منها رحمةٌ واحدةٌ كان أدنى(2) أهل الجنَّةِ منزلةً، وأعلاهم من حصلتْ له جميعُ الأنواع من الرَّحمة (فَأَمْسَكَ) تعالى (عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا) ولمسلمٍ من رواية عطاء، عن أبي هريرة: «وأخَّر عندهُ تسعةً وتسعين رحمةً» (وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا) القياس وأنزلَ إلى الأرض، لكنَّ حروف الجرِّ يقوم بعضُها مقامَ بعضٍ، أو فيه تضمين فعل، والغرضُ منه المبالغة؛ يعني أنزل رحمةً واحدةً منتشرةً في جميع الأرض، وفي رواية عطاء: «أنزلَ منها رحمةً واحدةً بين الجنَّ والإنسِ والبهائم» (فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ تَتَرَاحَمُ(3) الخَلْقُ) بالراء والحاء المهملة (حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا) هو كالظِّلف للشَّاة (عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ) أي: خشيةَ الإصابة، وفي رواية عطاء: «فيها يتعاطفونَ، وبها يتراحمونَ، وبها يعطفُ الوحشُ على ولدِهِ»، وفي حديث سلمان: «فبها(4) تعطفُ الوالدةُ على ولدِها، والوحشُ والطَّير بعضها على بعضٍ»، وزاد أنَّه يكمِّلها يوم القيامة مئة رحمة بالرَّحمة الَّتي في الدُّنيا.
          وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ.


[1] في (ص) و(ع): «يكون».
[2] في (ع): «أزكى».
[3] في (د) و(ع): «يتراحم».
[4] في (د): «فيها».