إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: هل ينتفع الواقف بوقفه؟

          ░12▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين (هَلْ يَنْتَفِعُ الوَاقِفُ بِوَقْفِهِ؟) إذا وقفه على نفسه ثمَّ على غيره، أو شرط لنفسه جزءًا معيَّنا، أو يجعل للنَّاظر على وقفه شيئًا ويكون هو النَّاظر، والصَّحيح من مذهب الشَّافعيَّة: بطلان الوقف على النَّفس وهو المنصوص، ولو وقف على الفقراء وشرط أن يُقْضى من غلَّة الوقف زكاته وديونه فهذا وقف على نفسه وغيره(1)، ففيه الخلاف، وكذا لو شرط أن يأكل من ثماره أو ينتفع به، ولو استبقى الواقف لنفسه التَّولية وشرط أجرةً(2)، وقلنا: لا يجوز أن يقف على نفسه، فالأرجح جوازه، ولو وقف على الفقراء ثمَّ صار فقيرًا ففي جواز أخذه وجهان: إذا قلنا: لا يقف على نفسه؛ لأنَّه لم يقصد نفسه وقد وجدت الصِّفة، والأصحُّ الجواز، ورجَّح الغزاليُّ المنع لأنَّ مطلقه ينصرف إلى غيره.
          (وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ) بن الخطاب ( ☺ ) في تحبيسه أرضه الَّتي بخيبر المسمَّاة بـ «ثَمْغ» السَّابق موصولًا في آخر «الشُّروط» [خ¦2737] (لَا جُنَاحَ) لا إثم (عَلَى مَنْ وَلِيَهُ) ولي(3) التَّحدُّث عليه (أَنْ يَأْكُلَ) زاد أبو ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”منها“ بالتَّأنيث، أي: من الأرض المحبَّسة.
          قال البخاريُّ تفقُّهًا منه: (وَقَدْ يَلِي الوَاقِفُ) التَّحدُّث على وقفه (وَ) قد يليه (غَيْرُهُ) واستنبط منه: أنَّ للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف، لأنَّ عمر شرط لمن وَلِيَ وقفه(4) أن يأكل منه، ولم يستثنِ إن كان هو الناظر(5) أو غيره، فدلَّ على صحَّة الشَّرط، وإذا جاز في المبهم الَّذي لم يعيِّنه كان فيما يُعيِّنه أجدر(6)، وقال المالكيَّة: لا تكون ولاية النَّظر للواقف. قال ابن بطَّال: سدًّا للذَّريعة لئلَّا يصير كأنَّه وقف على نفسه، أو يطول العهد فينسى الواقف، فيتصرَّف فيه لنفسه، أو يموت فيتصرَّف فيه ورثته، واستنبط بعضهم من هذا: صحَّة الوقف على النَّفس، وهو قول أبي يوسف، وقال المرداويُّ‼ من الحنابلة في «تنقيحه»: ولا يصحُّ على نفسه ويُصْرَف إلى من بعده في الحال، وعنه يصحُّ، واختاره جماعةٌ، وعليه العمل، وهو أظهر، وإن وقف على غيره، واستثنى كلَّ الغلَّة أو بعضها له أو لولده مدَّة حياته نصًّا أو مدَّةً معيَّنةً أو استثنى الأكل أو الانتفاع لأهله، أو يطعم صديقه، صَّح، فلو مات في أثناء المدَّة؛ كان لورثته، ثمَّ قوَّى المؤلِّف ما احتجَّ به من قصَّة عمر بقوله(7): (وَكَذَلِكَ مَنْ) ولأبي ذرٍّ: ”وكذلك كلُّ من“ (جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا للهِ) على سبيل العموم كالمسلمين (فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) بتلك العين الَّتي جعلها لله (كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ) من المسلمين، بناءً على أنَّ المخاطب يدخل في عموم خطابه (وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ) لنفسه ذلك(8) في أصل الوقف، ومن ذلك انتفاعه بكتابٍ وقفه على المسلمين.


[1] قوله: «وغيره» زيادة من الروضة لا بدَّ منها.
[2] في غير (ب) و(د): «أجرة»، والمثبت موافق لما في الروضة.
[3] في (د): «من».
[4] «وُلِّي»: مثبتٌ من (ب) و(س)، وفي (د): «لمن وليه».
[5] في غير (د) و(م) و(ص): «الواقف»، والمثبت موافق لمصدر المصنف: «الفتح».
[6] في (ب) و(س): «أجوز»، وكذا في «الفتح».
[7] في (ب): «قوله».
[8] «ذلك»: سقط من (د).