إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت

          7292- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى) بن إسماعيل التَّبوذكيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوضَّاح اليشكريُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ) بن عُميرٍ الكوفيُّ (عَنْ وَرَّادٍ) بفتح الواو والرَّاء المشدَّدة (كَاتِبِ المُغِيرَةِ) بن شعبة(1) ومولاه أنَّه (قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان (إِلَى المُغِيرَةِ: اكْتُبْ إِلَيَّ) بتشديد الياء (مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم فَكَتَبَ إِلَيْهِ) المغيرة (إنَّ نَبِيَّ اللهِ(2) صلعم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) بضمِّ الدَّال والموحَّدة، أي: عَقِبَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ بعد الفراغ منها: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ) حالٌ ثانيةٌ مؤكِّدةٌ لمعنى الأولى، و«لا» نافيةٌ، و«شريكَ» مبنيٌّ مع «لا» على الفتح، وخبر «لا» متعلِّق «له» (لهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ) أي: للَّذي أعطيته (ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ) للَّذي منعته (وَلَا يَنْفَعُ ذَا / الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ) بفتح الجيم فيهما، أي: لا ينفع صاحبَ الحظِّ من نزول عذابك حظُّه، وإنَّما ينفعه عمله الصَّالح، فالألف واللَّام في «الجَدُّ» الثَّاني عوضٌ عنِ الضَّمير، وقد سوَّغ ذلك الزَّمخشريُّ واختاره كثيرٌ من البصريِّين والكوفيِّين في نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:41] قال ورَّاد بالسَّند السَّابق: (وَكَتَبَ) المغيرة أيضًا (إِلَيْهِ) أي: إلى معاوية: (إِنَّهُ) صلعم (كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ) ببنائهما على الفتح على سبيل الحكاية، وبجرِّهما وتنوينهما مُعرَبين، لكنَّ الذي يقتضيه المعنى كونُهما على سبيل الحكاية؛ لأنَّ «القيلَ والقال» إذا كانا اسمينِ كانا بمعنًى(3) واحدٍ كـ «القول» فلم يكن في عطف أحدهما على الآخر فائدةٌ، بخلاف ما إذا كانا فعلين؛ فإنَّه يكون النَّهي عن «قيل» فيما لا يصحُّ ولا يُعلَم حقيقته، فيقول المرء في حديثه: قيل كذا؛ كما جاء في الحديث: «بئس مطيَّةُ المرء(4) زعموا» وإنَّما كان النَّهي عن ذلك لشغل(5) الزَّمان في التَّحديث بما لا يصحُّ ولا يجوز، ويكون النَّهي عن «قال» فيما يُشَكُّ في حقيقته وإسناده إلى غيره؛ لأنَّه يشغل الوقت بما لا فائدة فيه، بل قد يكون كذبًا، فيأثم ويضرُّ نفسه وغيره، أمَّا من تحقَّق الحديث، وتحقق من يُسنده إليه ممَّا(6) أباحه الشَّرع؛ فلا حرج في ذلك (وَ) كان ╕ ينهى عن (كَثْرَةِ السُّؤَالِ) بفتح الكاف، وكسرها لغةٌ رديئةٌ؛ كما في «الصِّـَحا♣ح» أي: كثرة المسائل العلميَّة التي لا تدعو الحاجة إليها، وفي حديث معاوية: «نهى عن الأغلوطات» وهي شداد المسائل وصِعابها، وإنَّما كرِه ذلك؛ لما يتضمَّن كثيرٌ منه التَّكلَّفَ في الدِّين والتَّنطُّع من غير ضرورةٍ، أو المسائل في المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة النَّاس (وَ) عن (إِضَاعَةِ المَالِ) فيما لا يحلُّ (وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ) جمع «أُمَّهَة» قال‼:
أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أَبي
إلَّا أنَّ «أمَّهةً» لمن يعقل و«أمَّ» لمن يعقل ولمن لا يعقل، قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين بن دقيق العيد: وتخصيص العقوق بالأمَّهات مع امتناعه في الآباء أيضًا؛ لأجل شدَّة حقوقهنَّ، ورجحان الأمر ببرّهن بالنِّسبة إلى الآباء، وهذا من باب تخصيص الشَّيء بالذِّكر(7) بإظهار(8) عِظَمِه في المنع إن كان ممنوعًا، وَشَرَفه إن كان مأمورًا به، وقد يُراعى في موضعٍ آخر بالتَّنبيه بذكر الأدنى على الأعلى، فيخصُّ الأدنى بالذِّكر، وذلك بحسب اختلاف المقصود (وَ) عن (وَأْدِ البَنَاتِ) بالهمزة السَّاكنة والدَّال المهملة، أي: دفنهنَّ مع الحياة، فعل الجاهليَّة؛ ولذا خُصَّت بالذِّكر، فتوجَّه النَّهي إليه، لا لأنَّ الحكم مخصوصٌ بالبنات (وَ) عن (مَنْعٍ) بفتح الميم وسكون النُّون وتنوين العين مكسورةً؛ لما يسأل من الحقوق الواجبة عليه (وَ) عن قول: (هَاتِ) بكسر الفوقيَّة من غير تنوينٍ، يطلب من النَّاس من غير حاجةٍ، وفيه ترجيح أن يكون المراد من النَّهي عن كثرة السُّؤال سؤال غير(9) المال دفعًا للتَّكرار.
          والحديث سبق في «الصَّلاة» [خ¦844] وغيرها [خ¦2408] [خ¦5975] [خ¦6473].


[1] في (ب): «شيبة»، وهو تحريفٌ.
[2] في (ع): «النبي».
[3] في (د) و(ع): «لمعنًى».
[4] في (ع): «الكذب».
[5] في (د) و(ع): «لإشغال»، وفي (ص): «لاشتغال».
[6] في (ص): «بما».
[7] «بالذكر»: ليس في (د).
[8] في (ب) و(س): «لإظهار».
[9] في (د) و(ع): «السؤال عن»، ولا يصحُّ.