التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج

          ░18▒ بَابُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ
          2045- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَائِشَةَ، وفي آخِرِهِ: (أَلْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا؟!).
          وقَدْ سَلَفَ، يحتملُ أَنْ يَكُوْنَ ◙ شَرَعَ فِي الاعتِكَافِ، فَلِذَلِكَ قَضَاهُ لقَولِ عَائِشَةَ: (إِنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ)، فإنْ كَانَ هَكَذَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ وَاجِبًا، وأهلُ العلمِ مُتَّفِقُونَ أنَّه لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ إلَّا مَنْ نَوَاهُ وشَرَعَ فِي عَمَلِهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لعُذْرٍ عَلَى مذهبِ مَنْ يَرَاهُ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ أنَّه لم يَشْرَعْ فِيْهِ، وإِنَّمَا كَانَ انصِرِافُه إِلَى بِنَائِه بعدَ صَلَاةِ الصُّبحِ مُطَّلِعًا لأُمُورِه والنَّظَرِ فِي إصلاحِها، ومَنْ كَانَ هَكَذَا فلَهُ أنْ يرجعَ عَنْ إمضاءِ نِيَّتِه لأمرٍ يَرَاهُ، وقَدْ قَالَ العُلَمَاءُ: مَنْ نَوَى اعتكافًا فلَه تركُه قبلَ أنْ يدخلَ فِيْهِ، وعَلَى هَذَا الوَجْهِ تَأَوَّلَه البُخَارِيُّ وترجمَ عَلَيْهِ، فقَضَاؤُهُ لَهُ تَطَوُّعًا.
          وفِيْهِ: أنَّ مَنْ نَوَى شيئًا مِنَ الطَّاعَاتِ ولَمْ يعملْ بِهِ أنَّ لَهُ أنْ يُترُكَه إنْ شَاءَ مطلقًا وإنْ شَاءَ إِلَى وقتٍ آخرَ، واعتِكَافُه ◙ وإنْ كَانَ تَطُوُّعًا فغيرُ كثيرٍ أَنْ يَكُوْنَ قَضَاؤُهُ فِي شَوَّالٍ، مِنْ أَجْلِ أنَّه كَانَ نَوَى أنْ يعملَه وإنْ لم يدخلْ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوفَى النَّاسِ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ.
          ذَكَرَ سُنَيْدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ مَعْبَدِ بنِ ثَابِتٍ فِي قولِه تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ} الآية [التَّوبة:75]، إنَّما هُوَ شيءٌ نَوَوْهُ فِي أَنفُسِهِمْ ولَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، ألم تَسمَعْ إِلَى قولِه تَعَالَى: {أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الآية [التَّوبة:78].
          وفي قولِه: (آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟) أنَّ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الرِّيَاءُ فِي شَيءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ فلَا بَأْسَ بالقَطْعِ عَلَيْهِ فِيْهِ ومَنْعِهِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى قولَه: ((آلْبِرَّ)) يَعْنِي: إنَّهُنَّ إنَّما أَرَدْنَ الحُظوَةَ والمنزلةَ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَطَعَ عَلَيْهِنَّ مَا أَرَدْنَهُ وأَخَّرَ مَا أَرَادَهُ لنفسِه.
          وفِيْهِ: أنَّ لِلرَّجُلِ مَنْعَ زَوجَتِه وأَمَتِه وعَبدِه مِنَ الاعتِكَافِ ابتداءً، كَمَا مَنَعَ نِسَاءَه اللَّاتِي ضَرَبنَ الأبنيةَ، وهُوَ قَوْلُ مالكٍ والكُوفِيِّينَ والشَّافِعِيِّ، واخْتَلَفُوا عندَ الإذنِ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَمنَعُهُمْ، وقَالَ الكُوفِيُّونَ: لَا يمنعُ زَوجَتَه إِذَا أَذِنَ لَهَا ويَمنَعُ عَبدَه إنْ أَذِنَ لَهُ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ مَنعُهما جميعًا، وقَالَ ابنُ شَعْبَانَ كقَولِ الشَّافِعِيِّ مَا لم يَدخُلَا فِيْهِ، والحديثُ دالٌّ لَهُ، لِأَنَّهُ ◙ كَانَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ وحَفْصَةَ فِي الاعتِكَافِ، ثُمَّ مَنعَهما مِنْهُ حِينَ رَأَى ذَلِكَ.
          وفِيْهِ: أَيْضًا أنَّه قَدْ يُسِتَرُ عَلَى الضَّرَائِرِ تفضيلُ بَعْضِهِنَّ عَلَى بعضٍ ولم يتركْ طَاعَةً للهِ تُسْتَدْرَكُ بعدَ حِينٍ.