التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اعتكاف النساء

          ░6▒ بَابُ اعْتِكَافِ النِّسَاءِ /
          2033- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَة أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً...) الحديثَ. وفي آخِرِه: (فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ).
          وقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وسَلَفَ ألفاظُه، وهُوَ ظاهرٌ فِي جَوَازِ اعتِكَافِهِنَّ كَمَا تَرْجَمَ لَهُ، وقَدْ أَذِنَ لَهُنَّ فِيْهِ كَمَا سَتَعلَمُهُ، وقَدْ أسلَفْنَا اختِلَافَ العُلَمَاءِ: هَلْ يَصِحُّ اعتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بيِتها؟ وإنَّ مذهبَ الثَّلَاثَةِ المنعُ خِلَافًا لأَبِي حَنِيْفَةَ.
          قَالَ مَالِكٌ: تَعتَكِفُ المرأةُ فِي مسجدِ الجماعةِ، ولَا يُعجِبُهُ أنْ تَعتَكِفَ فِي مسجدِ بيتِها، وقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَعتَكِفُ المرأةُ والعبدُ والمُسَافِرُ حَيْثُ شَاؤُوا، لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِم، وقَالَ الكُوْفِيُّوْنَ: لَا تَعتَكِفُ المرأةُ إلَّا فِي مسجدِ بيتِها، ولَا تَعتَكِفُ فِي مسجدِ الجماعةِ وذَلِكَ مكروهٌ، واحْتَجُّوا بأنَّ الشَّارِعَ نَقَضَ اعتِكَافَه إذْ تَبِعَهُ نِسَاؤُه، وهَذَا إنكارٌ عَلَيْهِنَّ، قَالُوا: وقَدْ قَالَ ◙: ((صَلَاةُ المَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ))، وإِذَا مُنِعَتْ مِنَ المكتوبةِ فِي المسجدِ مَعَ وُجُوبِها فلَأَنْ تَكُوْنَ ممنوعةً مِنِ اعتِكَافٍ هُوَ نَفْلٌ أَولَى، ولَمَّا كَانَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي المسجدِ أفضلَ، كَانَ اعتكافُه فِيْهِ أفضلَ، وحُجَّةُ مالكٍ: أنَّه ◙ لمَّا أَرَادَ الاعتِكَافَ أَذِنَ لِعَائِشَةَ وحَفْصَةَ فِي ذلكَ، وقَدْ جَاءَ هَذَا مُبَيَّنًا فِي بَابِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ كَمَا سَتَعلَمُهُ.
          ولو كَانَ المسجدُ غيرَ موضعِ اعتِكَافِهِنَّ لَمَا أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُنَّ مَعَهُ، ولَا يَجُوزُ أن يُظَنَّ بِهِ أنَّه نَقَضَ اعتِكَافَه ولكنْ أَخَّرَهُ تَطْيِيْبًا لِقُلُوبِهِنَّ، لِئَلَّا يجعلَ معتكفًا وهُنَّ غيرُ مُعتَكِفَاتٍ، وإِنَّمَا فَعَلَ ذلكَ، لِأَنَّهُ كَرِهَ أنْ يَكُنَّ مَعَ الرِّجالِ فِي مسجدِه، لِأَنَّهُ موضعُ الاجتماعِ، والوُفُودُ تَرِدُ عَلَيْهِ فِيْهِ، وهَذَا كَمَا يُسْتَحَبُّ لهنَّ أنْ يَتَعَمَّدْنَ الطَّوَافَ فِي الأوقاتِ الخاليةِ، وكَمَا يُكرَهٌ للشَّابَّاتِ مِنْهُنَّ الخُرُوجُ للجُمَعِ والأعيادِ، فَإِذَا أَرَدْنَ أنْ يُصَلِّينَ الجُمَعَ لم يَجُزْ إلَّا فِي الجَامِعِ مَعَ الرِّجَالِ.
          وفِيْهِ كَمَا قَالَ ابنُ المُنْذِرِ: دِلَالَةٌ أَيْضًا أنَّ المرأةَ إِذَا أَرَادَت اعتِكَافًا لم تَعْتَكِفْ حَتَّى تَستَأذِنَ زَوجَهَا، ويَدُلُّ عَلَى أنَّ الأفضلَ فِي حقِّ النِّسَاءِ لُزُومُ مَنَازِلِهِنَّ وتَركُ الاعتِكَافِ مَعَ إباحَتِهِ لَهُنَّ، لأنَّ رَدَّهُنَّ مِنْهُ دَالٌّ عَلَى ذلكَ، وقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَيْضًا:
          ░7▒ بَابُ الأَخْبِيَةِ فِي المَسْجِدِ
          2034- وفِيْهِ مِنَ الفِقْهِ: أنَّ المُعتَكِفَ يُهَيِّئُ لَهُ مَكَانًا فِيْهِ بحَيْثُ لَا يُضَيِّقُ عَلَى المسلمينَ كَمَا فَعَلَ الشَّارِعُ، إذْ ضَرَبَ فِيْهِ خِبَاءً.
          وفِيْهِ: أنَّ للمُعتَكِفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ فِي المسجدِ أنْ يَتَنَحَّى عَنِ النَّاسِ خَوفَ أَنْ يَكُوْنَ مَا يُؤْذِيهم مِنْ آفَّاتِ البَشَرِ.
          وفِيْهِ: إباحةُ ضَربِ الأخبيةِ فِي المسجدِ للمُعتَكِفِ، قَالَ مَالِكٌ: ولْيَعْتَكِفْ فِي عَجُزِ المسجدِ ورِحَابِه فذلكَ الشَّأْنُ فِيْهِ.
          وقولُه: (أَلْبِرَّ تُرِدْنَ؟): هُوَ بهمزةِ الاستفهامِ، ومَدُّهُ عَلَى وَجْهِ الإنكارِ، ونَصْبُهُ (البِرَّ) عَلَى أنَّه مفعولُ (تُرِدْنَ) مُقَدَّمًا، وذَكَرَه فِي بابِ: الاعتِكَافِ فِي شَوَّال: ((آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا)) فنُزِعَتْ، وضَبَطَ الدِّمْيَاطِيُّ (البِرَّ) بالرَّفْعِ أَيْضًا، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: كَذَا وَقَعَ فِي أكثرِ النُّسَخِ: ((فَلَا أَرَاهَا)) بالألفِ وصَوَابُهُ بحَذْفِهَا، لِأَنَّهُ مجزومٌ بالنَّهْيِ، وهُوَ مثلُ: أريتُكَ هُنَا، ويجوزُ إِثْبَاتُ الألفِ مِثْلُ:
أَلَمْ يَأْتِيْكَ والأَنْبَاءُ تَنْمِي
          وقَالَ الخَطَّابِيُّ: (أَلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ) معناهُ: البِرَّ تَظُنُّونَ بِهِنَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
مَتَى تَقُولُ القُلُصَ الرَّوَاسِمَا                     يَحْمِلْنَ أُمَّ قَاسِمٍ وَقَاسِمَا
          أي: مَتَى تَظُنُّ القُلُصُ يَلْحَقْهُمَا، وكَذَلِكَ نَصَبَ القُلُصَ، قَالَ الفَرَّاءُ: تَجْعَلُ مَا بَعْدَ القَولِ مَرْفُوْعًا عَلَى الحِكَايَةِ فتَقُولُ: عبدُ اللهِ ذَاهِبٌ، وقُلْتُ: إنَّكَ قَائِمٌ، هَذَا فِي جميعِ القَولِ إلَّا فِي أَتَقُولُ وَحدَهَا فِي حُرُوفِ الاستفهامِ، فإنَّهم يُنْزِلُونَهَا مَنْزِلةَ الظَّنِّ فيَقُوْلُوْنَ: أَتَقُولُ أَنَّكَ خَارِجٌ؟ ومَتَى تَقُولُ أَنَّ عبدَ اللهِ مُنْطَلِقٌ؟ وأَنشَدَ:
أَمَّا الرَّحِيلُ فدُونَ بَعْدَ غَدٍ                     فَمَتَى تَقُولُ الدَّارَ تجمَعُنَا
          بنَصْبِ الدَّارِ كَأَنَّه يَقُولُ: فمَنْ يَظُنُّ الدَّارَ تَجمَعُنَا، وأَجَازَ سِيْبَوَيْهِ الرَّفْعَ فِي قولِه: الدَّارُ تَجمَعُنَا عَلَى الحِكَايَةِ، وهُوَ فِي معنى الإنكارِ عَلَيْهِنَّ، وقِيْلَ: إنَّما كَرِهَهُ للتَّنَافُسِ فيضيقُ المسجدُ، وقِيْلَ: خَشيَةَ الافتراضِ فيَعجَزْنَ، وأبعدَ مَنْ قَالَ: لأَنَّهُنَّ لم يَعتَكِفنَ عَنْ إِذنِهِ، فقَد استَأذَنَتْه عَائِشَةُ وحَفْصَةُ كَمَا سَلَفَ، وقِيْلَ: إنَّما أَرَدنَ الحُفُوفَ بِهِ والمؤانسةَ لَا البِرَّ.
          وقولُها: (فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ) احتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: يُبْدَأُ بالاعتكافِ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ، وبِهِ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ، واللَّيثُ فِي أَحَدِ قَولَيهِ، واختَارَهُ ابنُ المُنْذِرِ، وذَهَبَتِ الأربعةُ والنَّخَعِيُّ إِلَى جَوَازِ دُخُولِه قبلَ الغُرُوبِ إِذَا أَرَادَ اعتِكَافَ عَشْرٍ أو شَهْرٍ، وتَأَوَّلُوا أنَّه دَخَلَ المُعتَكَفَ، وانقَطَع فِيْهِ وتَخَلَّى بنفسِه بعدَ صَلَاةِ الصُّبحِ، لأنَّ ذَلِكَ وقتُ ابتداءِ الاعتِكَافِ، بَلْ كَانَ قبلَ المغربِ مُعتَكِفًا لَابِثًا فِي المسجدِ فَلَمَّا صَلَّى الصُّبحَ انفَرَدَ، وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُوْنَ ذَلِكَ اليومَ أو يَكُونَ دَخَلَ الاعتِكَافَ أَوَّل اللَّيلِ، ولَمْ يَدْخُلِ الخِبَاءَ إلَّا بعدَ ذَلِكَ، وقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إنْ أَرَادَ اعتِكَافَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ دَخَلَ قبلَ الفَجْرِ، وإنْ أَرَادَ اعتِكَافَ عَشْرِ ليالٍ دَخَل قَبْلَ الغُرُوبِ، وهَلْ يبيتُ ليلةَ الفِطْرِ فِي مُعتَكَفِهِ ولَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا إِذَا خَرَجَ لصَلَاةِ العيدِ فيُصَلِّي، وحِيْنَئِذٍ يَخْرُجُ إِلَى منزلِه، أو يَجُوزُ لَهُ أنْ يَخْرُجَ عندَ الغُرُوبِ مِنْ آخِرِ يومٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَوْلَانِ للعُلَمَاء:
          الأوَّلُ: قولُ مالكٍ وأحمدَ وغيرِهما وسَبَقَهم أَبُو قِلَابَةَ وأَبُو مِجْلَزٍ، وحَكَاَه مالكٌ عَنْ أهلِ الفَضْلِ، واختَلَفَ أصحابُ مالكٍ إِذَا لم يفعلْ هَلْ يَبطُلُ اعتِكَافُه أَمْ لا؟ قولانِ. قَالَ عَبْدُ المَلِكِ وابنُ سُحْنُونَ: مَنْ دَخَلَ بعدَ الغُرُوبِ أُسقِطَ ذَلِكَ اليَومُ، وقَالَ القَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا عَلَى الاستحبابِ، وأمَّا الوَاجِبُ فَهُوَ أنْ يَدخُلَ فِي وقتٍ يُمكِنُه أنْ يَنوِيَ الصَّومَ فِيْهِ وهُوَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، لأنَّ الاعتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا بصَومٍ، وذَهَبَ الشَّافِعِيُّ واللَّيثُ والأَوْزَاعِيُّ فِي آخَرِينَ إِلَى أنَّه يَجُوزُ خُرُوجُه ليلةَ الفِطْرِ ولَا يَلزَمُهُ شيءٌ.
          وفِيْهِ: أنَّ عَائِشَةَ / كَانَتْ تَلْزَمُ أُمُورَهُ ولَا تُضَيِّعُهَا فِي حَالِ القَسْمِ حَيْثُ ضَرَبَتْ لَهُ الخِبَاءَ، وفِيْهِ: معرفةُ حَفْصَةَ بحَقِّ عَائِشَةَ، ومُنَافَسَةُ زَيْنَبَ فِي الخيرِ، وهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِي عَائِشَةَ.
          خَاتِمَةٌ: حَدِيثَا البابِ مِنْ روايةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وذَكَرَه ابنُ التِّيْنِ مِنْ روايةِ عَمْرَةَ: أنَّ رَسُولَ الله صلعم، ثُمَّ قَالَ: هُوَ مُرسَلٌ، وإِنَّمَا أَدخَلَه لاختِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيْهِ، لأنَّها أَسنَدَتْهُ قَبْلَ هَذَا، وفي بعضِ رِوَايَاتِ أَبِي ذَرٍّ: عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قُلْتُ: وَلَمْ نَقِفْ عَلَى غيرِه.