التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب

          ░12▒ بابٌ. /
          1888- ذَكر حديثَ خُبيْبِ _بالخاء المعجمة_ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي)، وهذا سلف في باب فضل ما بين القبر والمنبر [خ¦1196].
          1889- وحديثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ المَدِينَةَ، وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ، وَبِلاَلٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ                     وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
          وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ ويَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً                     بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ                     وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
          اللهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الوَبَاءِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: (اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ)، قَالَتْ: وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا.
          1890- وذكر فيه عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عنْ عُمَرَ قَالَ: اللهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صلعم.
          وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ هِشَامٌ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصَةَ، سَمِعْتُ عُمَرَ.
          الشَّرح: حديثُ أبي هريرةَ سلف [خ¦1196]، وحديثُ عائشةَ أخرجه مسلمٌ أيضًا وفي روايةٍ: ((فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَه كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟)) ذَكَره في المرضى، وفيه قالت عائشةُ: ((فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ _صلعم_ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ))، وقال: ((فِي صَاعِهَا وَفِي مُدِّهَا))، وفي «موطَّأ معنِ بْنِ عيسى»: عرض عَليَّ مالكٌ، عَنْ يحيى بْنِ سعيدٍ قالت عائشةُ: وكان عامرُ بْنُ فُهَيْرةَ يقول:
لَقَد رَأَيتُ الموتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ
إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِنْ فَوْقِهِ
كالثَّور يحمي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ
          وهذا لِعمرٍو اللَّخميِّ أخي عمرو بْنِ هِندٍ الملكِ، ذكره المَرْزُبانيُّ، وفيه رَدٌّ لقول أبي عمرَ: لم يذكره مالكٌ عَنْ يحيى بْنِ سعيدٍ، قال أبو عمرَ: ورواه ابنُ عُيَيْنةَ وإسحاقُ، عَنْ هشامٍ، عَنْ أبيه عنها، فجعل الدَّاخلَ على أبي بكرٍ وبلالٍ وعامرٍ رسولَ الله _صلعم_ لا عائشةَ.
          وفيه: فقال: ((اللهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةَ بمِثْلِ مَا دَعَاكَ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ اللهُمَّ بَارِكْ لَنا فِي مَدِينَتِنَا)) الحديث، وفيه: ((وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى خُمٍّ أَوِ الْجُحْفَةِ))، وفي لفظ ابنِ إسحاقَ: ((وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إلَى مَهْيَعَةَ)).
          قلت: والذي في «سيرة ابنِ إسحاقَ» عَنْ هشامٍ كما في البخاريِّ أوَّلًا.
          قال: وفي رواية ابنِ أبي الزِّناد، عَنْ موسى بْنِ عُقبةَ، عَنْ سالمٍ عَنْ أبيه: سمعت النَّبيَّ _صلعم_ يقول: ((رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الشَّعْرَ تَفِلَةً أُخْرِجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَأُسْكِنَتْ مَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُهَا وَبَاءَ الْمَدِينَةِ يَنْقُلُهُ اللهُ إِلَى مَهْيَعَةَ))، وذكر ابنُ الكلبيِّ أنَّ العماليق أَخرجوا بني عبير، وهم إخوة عادٍ مِنْ يثربَ، فنزلوا الجُحفة، وكان اسمها مَهْيَعَة، فجاءهم سيلٌ فأجحفهم، فسُمِّيت الجُحفة.
          وتعليقُ ابنُ زُرَيعٍ وصله أبو نُعيمٍ فقال: حدَّثنا أبو عليٍّ الصَّوَّاف، حدَّثنا إبراهيمُ بْنُ هشامٍ، حدَّثنا أميَّةُ بْنُ بِسْطامٍ، حدَّثنا يزيدُ بْنُ زُرَيعٍ، حدَّثنا رَوحٌ بلفظِ: ((سَمِعْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ))، قال: ((قُلْتُ: وَأَنَّى يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: يَأْتِي بِهِ اللهُ _جَلَّ وَعَلَا_ إِذَا شَاءَ))، وقال الإسماعيليُّ: أخبرنا إبراهيمُ بْنُ هاشمٍ، حدَّثنا أميَّةُ بْنُ بِسْطامٍ، حدَّثنا يزيدُ بْنُ زُرَيعٍ، حدَّثنا روحُ بْنُ القاسمِ به.
          وتعليقُ هشامٍ وصله ابنُ سعدٍ في «طبقاته»: أخبرنا محمَّدُ بْنُ إسماعيلَ بْنِ أبي فُدَيكٍ، عَنْ هشامٍ بْنِ سعدٍ، عَنْ زيدٍ بْنِ أسلمَ، عَنْ أبيه، عَنْ حفصةَ، فذكره كما ذكره أبو نُعيمٍ قبلُ، قال: وأخبرنا عبد الله بْنُ جعفرٍ الرَّقِّيُّ، حدَّثنا عبد الله بْنُ عمرٍو، عَنْ عبدِ الملكِ بْنِ عمر، عَنْ أبي بُرْدةَ، عَنْ أبيه قال: رأى عوفُ بنُ مالكٍ زمن أبي بكرٍ رؤيا، فيها: وأنَّ عمرَ شهيدٌ مستشهَدٌ فقال عمرُ في خلافته لمَّا قصَّها عليه ثانيًا: ((أَنَّى لِيَ بالشَّهَادَةِ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَسْتُ أَغْزُو والنَّاسَ حَوْلِي، ثُمَّ قَالَ: وَيْلِي وَيْلِي، يَأْتِي بِهَا اللهُ إِنْ شَاءَ اللهُ ╡)).
          إذا تقرَّر ذلك فالكلام على ذلك مِنْ أوجهٍ، أحدها: قوله _صلعم_: (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ) قد أسلفنا أنَّه يحتمل أنْ يكون حقيقةً، وأنْ يكون مجازًا [خ¦1196].
          وجه الأوَّل: أنْ يكون الموضع الَّذي بين المنبر والقبر يومَ القيامة في الجنَّة روضةً، يؤيِّدُه قوله _تعالى_ عنْ أهل الجنَّة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] فدلَّتْ أنَّ الجنَّة تكون في الأرض يوم القيامة.
          ووجه الثَّاني: أنْ يكون معناه أنَّ مَنْ صلَّى فيما بين القبر والمنبر فقد استوجب روضةً في الجنَّة يُجازَى بها يومَ القيامة على قصده وصلاتِه في هذا الموضع، كمَا قال _صلعم_: / ((ارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ)) يعني: حِلَق الذِّكر والعلم، لما كانت مؤدِّيةً إلى الجنَّة.
          ويكون معناه التَّحريضَ على زيارة قبرِه _صلعم_ والصَّلاةِ في مسجده، وكذلك يدلُّ قوله: ((صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ)) على الحضِّ والنَّدب على قصده والصَّلاة فيه والزِّيارة له، وقد بسطنا القول في ذلك في فضل ما بين القبر والمنبر فراجعه منه [خ¦1196].
          الثَّاني: قول عمرَ: (اللهُمَّ اجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ) احتجَّ به مَنْ فضَّل المدينة، وقالوا: لو علم عمر بلدةً أفضل مِنَ المدينة لدعا ربَّه أنْ يجعل موته وقبرَه فيها، وكان ممَّا استُدِلَّ به على فضلها أنَّ الله _تعالى_ لمَّا اختارها لنبيِّه عَلِمَ أنَّه لم يختر له إلَّا أفضلَ البقاع، وقد جاء أنَّ ابنَ آدمَ إنَّما يُدفن في التَّربة التي خُلق منها، وقد سلف ذلك [خ¦1884].
          الثَّالث: حديث عائشةَ ووعْكِ أبي بكرٍ وبلالٍ وإنشادِهما في ذلك، فإنَّ الله _تعالى_ لمَّا ابتلى نبيَّه بالهجرة وفراقِ الوطن ابتلَى أصحابه بما يكرهون مِنَ الأمراض الَّتي تؤلمهم، فتكلَّمَ كلُّ إنسانٍ حسب علمه ويقينِه بعواقب الأمور فتعزَّى الصِّدِّيقُ عند أخذ الحمَّى له بما ينزل به مِنَ الموتِ في صباحه ومسائه، ورأى أنَّ ذلك شاملٌ للخلق، فلذلك قال:
كلُّ امرئ مُصبَّحٌ في أهلِه
          يعني: تُصبِّحُه الآفات وتُمَسِّيه، وأمَّا بلالٌ فإنَّما تمنَّى الرُّجوع إلى مكَّةَ وطنِه الَّذي اعتادَه ودامت فيه صحَّته، فبان فضْلُ الصِّدِّيق وعلمُه بسرعة فناء الدنيا حتَّى مثَّل الموتَ بشراك نعله، فلمَّا رأى _◙_ ما نزل بأصحابه مِنَ الحُمَّى والوباء خشي منهم كراهيةَ البلدِ لما في النُّفوس مِنِ استثقال ما تكرهُه، فدعا ربَّه _تعالى_ في رفع الوباء عنهم، وأن يُحبِّبَ إليهم المدينة كحُبِّهم مكَّة أو أشدَّ، فدلَّ ذلك أنَّ أسباب التَّحبيب والتَّكرمة بيد الله _تعالى_ وهبةٌ منه يهبُها لمَن يشاء، وفي هذا حجَّةٌ واضحةٌ على مَنْ كذَّب بالقدر إذِ الَّذي مَلك النُّفوس فيحبِّب إليها ما أحبَّ ويكرِّه إليها ما أكره هو الرَّبُّ جلَّ جلاله، فأجاب دعوة نبيِّه، فأحبُّوها حبًّا دام في نفوسهم حتَّى ماتوا عليه.
          وفيه ردٌّ على الصُّوفيَّة إذ قالوا: إنَّ الوليَّ لا تتمُّ ولايتُه إلَّا إذا تمَّ له الرِّضا بجميع ما نزل به، ولا يدعو الله في كشف ذلك عنه، فإنْ دعا فليس في الولاية كاملًا، وقد أَزْرَوْا في قولِهم هذا بنبيِّه وأصحابه، وقد كان _صلعم_ إذا نزل به شيءٌ يُكثِر عليه الرُّقى والدُّعاء في كشفِه.
          وفيه أنَّ الله تعالى أباح للمؤمن أنْ يسأل ربَّه صحَّة جسمه، وذهابَ الآفات عنه إذا نزل به، كسؤاله إيَّاه في الرِّزق والنَّصر، وليس في دعاء المؤمن ورغبته في ذلك إلى الله لومٌ ولا قدحٌ في دينه، وكان مِنْ دعائه _صلعم_ كثيرًا: ((وَقَوِّني فِي سَبِيلِكَ)) قال القاضي في «معونته»: لا يجوز أنْ يسأل الشَّارع ربَّه أن يحبِّب إليه الأَدْوَن دون الأعلى، ودعاؤه بالبركة في الصَّاع والْمُدِّ عبَّر به عَنِ الطَّعام الَّذي يُكال بهما.
          وقوله: (وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ) لأنَّها كانت يومئذٍ دار شركٍ، وكان _صلعم_ كثيرًا ما يدعو على مَنْ لم يُجِبْهُ إلى الإسلام إذا خاف منه معونةَ أهل الكفر، ويسأل الله أنْ يبتليَهم بما يشغلهم عنه، وقد دعا على قومه أهل مكَّة حين يئس منهم فقال: ((اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ))، ودعا على أهل الجُحفة بالحمَّى، ليشغلهم بها فلم تزل الجُحفة مِنْ يومِئذٍ أكثرَ بلاد الله حمًّى، وإنَّه لَيُتَّقَى شرب الماء مِنْ عينها الَّتي يُقال لها: عين خُمٍّ، فَقَلَّ مَنْ شرب منه إلَّا حُمَّ، وهو متغيِّر الطَّعم.
          وقال الخطَّابيُّ: كان أهل الجُحفة إذ ذاك يهودًا، وقيل: إنَّه لم يبقَ أحدٌ مِنْ أهلها حينئذٍ إلَّا أخذته الحُمَّى.
          قلتُ: ويحتمل أن يكون هذا هو السِّرُّ في الطَّاعون لا يدخل المدينة لأنَّه وباءٌ عند الأطبَّاء وغيرهم، والشَّارع دعا بنقل الوباء عنها، فأجاب الله دعاءه إلى آخر الأبد.
          وفيه حجَّةٌ على بعض المعتزلة القائلين ألَّا فائدة في الدَّعاء مع سابق القدر.
          والبيتان المذكوران من إنشاد بلالٍ، ذكر أسامةُ بْنُ مرشدٍ في كتابه «التَّمام في تصريف الأحلام» أنَّهما لبكرِ بْنِ غالبِ بْنِ عامرِ بْنِ الحارثِ بْنِ مِضاضٍ الجُرهميِّ عندما نفتهم خزاعةُ عَنْ مكَّة، قال: وَرُوِيَا لغيره.
          وقولها: (يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ) أي صوته إذا تغنَّى أو قرأ، ومعنى (أُقْلِعَ) زال، وأصلُ ذلك عند العرب أنَّ رجلًا قُطِعَتْ إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأُخرى وصرخ بأعلى صوته، فقيل لكلِّ رافعٍ صوتَه: قد رفع عقيرته.
          وعن أبي زيدٍ يُقال: رفع عقيرته إذا قرأ أو غنَّى، ولا يُقال في غير ذلك ذكره في «الموعَب»، وفي «التَّهذيب» للأزهريِّ: أصله أنَّ رجلًا أُصيب عضوٌ مِنْ أعضائه، وله إبلٌ اعتادت حُداءَه، فانتشرتْ عليه إبلُه فرفع صوتَه بالأنين لِمَا أصابه مِنَ العقر في بدنه فسمعتْ به إبلُه فحسبته يحدو بها، فاجتمعت إليه، فقيل لكلِّ مَنْ رفع عقيرته بالغناء: قد رفع عقيرته، وفي «المحكم»: عقيرةُ الرَّجل صوتُه إذا غنَّى أو قرأ أو بكى، ومعنى (وُعِكَ) حُمَّ.
          قال ابنُ سِيدَهْ: رجلٌ وعِكٌ ووِعْكٌ موعوكٌ، وهذه الصِّيغة على توهُّم فَعِلَ كَأَلِمَ، أو على النَّسب كطَعِمَ، والوعَك: الألمُ يجده الإنسان مِنْ شدَّة التَّعب، وفي «الجامع»: (وُعِكَ) إذا أخذته الحمَّى، وأخذته وَعْكةٌ يُراد ذلك، والواعك الشَّديد مِنَ الحمَّى، وقد وعكته الحمَّى تَعِكُهُ إذا دكَّته، وفي «المجمل»: الوعْك الحُمَّى وقيل: معت الحمَّى.
          و(الإِذْخِرُ) وَ(الجَلِيْلُ): نبْتَان بمكَّة، وقال بعضم: شجرتان، وأُنكر عليه، وإنَّما هما نبتان.
          و(شَامَةٌ وَطَفِيلُ): جبلان بها، وقال الفاكهانيُّ: بينهما وبين مكَّة نحوُ ثلاثين ميلًا.
          قال الخطَّابيُّ: وكنتُ مرَّةً أحسبهما جبلين حتَّى أُنْبِئْتُ أنَّهما عينان، و(الجَلِيْلُ) _بجيمٍ مفتوحةٍ ثمَّ لامٍ مكسورةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ / تحتُ ثمَّ لامٍ_ واحدته جليلةٌ، قال أبو نصرٍ: أهل الحجاز يسمُّون الثُّمام: الجليل وهو شجرٌ ضعيفٌ.
          و(مِيَاهَ) جمع ماءٍ وهو بالياء في جمعِه، ومجيئهُ دليلٌ على أنَّ الهمزة في ماءٍ مُبدَلَةٌ من هاءٍ.
          و(شَامَةٌ) _بشينٍ معجمةٍ ثمَّ ألفٍ ثمَّ ميمٍ_ كذا ذكره أبو عُبيدٍ، وقيَّده ابنُ الأَثير والصَّنعانيُّ بباءٍ موحَّدةٍ بعد الألف.
          و(طَفِيلُ) _بفتح الطَّاء المهملة ثم فاءٍ مكسورةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ تحتُ_ جبلٌ مِنْ حدود هَرْشَىْ، مُشرِفُ هو وشامةُ على مجنَّةَ، ومجنَّةُ على بريدٍ مِنْ مكَّة، وقال ابنُ فارسٍ: (طَفِيلُ) موضعٌ، وتمنَّى بلالٌ رجوعَه إلى مكَّة لمَّا استثقل حمَّى المدينة ووباءها.
          و(الوَبَاءِ) _بالهمز_ الموت الذَّريع، قال في «الصِّحاح»: يُمدُّ ويُقصَر، مرضٌ عامٌّ، وقال ابنُ الأثير: هو يمدُّ ويقصر ويهمَز الطَّاعونُ والمرض العامُّ، وفي «التَّمهيد» قيل: إنَّ أحدهما بجدَّة، وفي «المحكم» و«الجامع» و«المجمل»: (شَامَةٌ وَطَفِيلُ) موضعان، ويُقال: بدل الطَّاء بالقاف.
          و(مَجَنَّةٍ) _بفتح أوَّله وثانيه ثمَّ نونٍ مشدَّدةٍ ثمَّ هاءٍ بعدها_ ماءٌ عند عكاظَ على أميالٍ يسيرةٍ مِنْ مكَّة بناحية مَرِّ الظَّهران، وقال ابنُ التِّين: سوقُ هَجَر بقرب مكَّة، قال أبو الفتح: يحتمل أنْ تُسمَّى (مَجَنَّةٍ) ببساتينَ تتَّصل بها، وهي الِجنان وأنْ تكون فَعَلَّة مِنْ مَجَنَ يَمْجنُ، سُمِّيت بذلك لأنَّ ضربًا مِنَ الْمُجون كان بها، وحكى صاحب «المطالع» كسرَ الميم أيضًا، وقال الأزرقيُّ: هي على بريدٍ مِنْ مكَّة.
          وقولها: (بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا): (بُطْحَانُ) اسمٌ للمكان المنبطح، وهو المستوي المتَّسع، و(بطحانُ) _بضمِّ أوَّله عند المحدِّثين وبفتحها ثمَّ بطاءٍ مكسورةٍ عند أهل اللُّغة قال البكريُّ لا يجوز غيره_ وهو وادٍ بالمدينة.
          و(يَجْرِي نَجْلًا) يريد واسعًا، تقول العرب: اسْتَنْجَلَ الْوَادِي إذا اتَّسع جريُه، ومنه العين النَّجلاء الواسعة، وطعنةٌ نجلاءُ أي: واسعةٌ، وفي البخاريِّ: ((مَاءً آجِنًا))، وقيل إنَّ النَّجْل: النَّزُّ حين يظهر.
          قال ابنُ التِّين: ضُبِطَ في بعض المصنَّفات بفتح الجيم، وفي بعضها بالكسر، والصَّوابُ عند أهل اللُّغة سكون الجيم، والآجِنُ والأجِنُ: المتغيِّرُ الرِّيحِ، يُقال منه: أجَنَ الماء يأجِن ويأجُن، وأجِن _بالكسر_ يأجَن.
          وفيه مِنَ المعاني جوازُ هذا النَّوع مِنَ الغناء، وهو نشيد الأعراب للشِّعر بصوتٍ رَفيعٍ، وفي المسألة مذاهبُ:
          ذهب أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ وعِكرمةُ والشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ وحمَّادٌ والثَّوريُّ وجماعةُ أهل الكوفة إلى تحريم الغناء. وذهب آخرون إلى كراهته، نُقل ذلك عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ وجماعةٌ مِنْ أصحابِه، وَحُكِيَ ذلك عنْ مالكٍ وأحمدَ.
          وذهب آخرون إلى إباحته لكن بغير هذه الهيئة الَّتي تُعمل الآن، فمِنَ الصَّحابة عُمرُ ذكره ابنُ عبد البرِّ، وعثمانُ ذكره الماورديُّ، وعبدُ الرَّحمن بْنُ عوفٍ ذكره ابنُ أبي شيبةَ، وسعدُ بْنُ أبي وقَّاصٍ وابنُ عمرَ ذكرهما ابنُ قُتيبةَ، وأبو مسعودٍ البدريُّ وأسامةُ بْنُ زيدٍ وبلالٌ وخَوَّاتُ بْنُ جُبيرٍ ذكرهم البَيهقيُّ، وعبدُ الله بْنُ الأرقمِ ذكره أبو عمرَ، وجعفرُ بْنُ أبي طالبٍ ذكره السُّهْرَوَرْدِيُّ في «عوارفه»، والبراءُ بْنُ مالكٍ ذكره أبو نُعيمٍ، وابنُ الزُّبيرِ ذكره صاحبُ «القوت» وابنُ جعفرٍ ومعاويةُ وعمرُو بنُ العاصِ والنُّعمانُ بْنُ بشيرٍ وحسَّانُ بْنُ ثابتٍ وخارجةُ بْنُ زيدٍ وعبدُ الرَّحمنِ بْنُ حسَّانَ ذكرهم أبو الفرج في «تاريخه»، وقُرَظَةُ بْنُ كعبٍ ذكره الهَرَويُّ، ورباحُ بْنُ المغترفِ، ومِنَ التَّابعين جماعةٌ ذكرهم ابنُ طاهرٍ وابنُ قتيبةَ وأبو الفرج.
          وذهبت طائفةٌ إلى التَّفرقة بين الغناء القليلِ والكثير، وطائفةٌ إلى التَّفرقة بين الرِّجال والنِّساء، فحرَّموه مِنَ الأجانب، وجوَّزوه مِنْ غيرِهنَّ. وقد أوضحتُ ذلك بزيادةٍ في شرحي «للمنهاج» في الشَّهادات فراجعْه منه.
          وقال ابنُ حزمٍ: مَنْ نوى به ترويحَ القلب ليقوَى على الطَّاعة فهو مطيعٌ، ومَنْ نوى به التَّقوية على المعصية فهو عاصٍ، وإن لم ينوِ شيئًا فهو لغوٌ معفُوٌّ عنه.
          وقال الأستاذ أبو منصورٍ: إذا سلِمَ مِنْ تضييع فرضٍ ولم يترُك حفظ حرمة المشايخ به فهو محمودٌ وربَّما أُجِر.
          قال الطَّبريُّ: وهذا النَّوع مِنَ الغناء هو المطلَق المباح بإجماع الحُجَّة، وهو الَّذي غُنِّيَ به في بيت رسول الله _صلعم_ ولم يَنْهَ عنه، وهو الَّذي كان السَّلفُ يجيزون ويسمعون.
          وروى سفيانُ بْنُ عُيَيْنةَ عَنْ هشامِ بْنِ عروةَ عَنْ أبيه قال: ((نِعْمَ زَادُ الرَّاكِبِ الْغِنَاءُ نَصْبًا)) وروى ابنُ وَهْبٍ عَنْ أسامةَ وعبدِ الله ابني زيدِ بْنِ أسلمَ، عَنْ أبيهما زيدٍ، عَنْ أبيه أنَّ عمرَ قال: ((الْغِنَاءُ مِنْ زَادِ الرَّاكِبِ))، وروى ابنُ شهابٍ، عَنْ عمرَ بْنِ عبدِ العزيزِ أنَّ محمَّدَ بْنَ نوفلٍ أخبره: ((أَنَّهُ رَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى يَتَغَنَّى النَّصْبَ)).
          قال الطَّبريُّ: وإنَّما تُسمِّيه العرب: النَّصْب: لِنَصْب المتغنِّي به صوته، وهو الإنشادُ له بصوتٍ رفيعٍ.
          وروى ابنُ شهابٍ، عن عبيدِ الله بْنِ عبدِ الله بْنِ عتبةَ، عَنْ أبيه: ((أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْأَرْقَمِ رَافِعًا عَقِيرَتَهُ يَتَغَنَّى، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخْشَى لِلَّهِ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ)).
          وقد سلف شيءٌ مِنْ ذلك في باب: سُنَّةِ العيدين لأهل الإسلام [خ¦952]، وسيأتي ما يحلُّ منه في الاستئذان في باب: كلُّ لهوٍ باطلٌ إذا شغله عَنِ الطَّاعة إن شاء الله [خ¦6301].
          وحديث: ((لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيه، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا)) فمؤوَّلٌ إمَّا على الهجوِ، وإمَّا على الغَلَبَةِ عليه، قال لبيدٌ بْنُ ربيعةَ: ما قلتُ بيتَ شعرٍ منذ أسلمتُ.
          وفي حديث عائشةَ مِنَ الفقه تمثُّلُ الصَّالحين والفُضلاء بالشِّعر، وفيه عيادةُ الجِلَّةِ السَّادةِ لعبيدهم لأنَّ بلالًا أعتقه الصِّدِّيقُ، وكانت عائشةُ تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب.
          آخرُ الحجِّ بحمد الله ومَنِّه.