التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس

          ░2▒ بَابُ: فَضْلِ المَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ. /
          1871- ذَكر فيه حديثَ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيْدٍ، سَمِعْتُ أَبَا الحُبَابِ سَعِيْدَ بْنَ يَسارٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا قال ابنُ عبدِ البرِّ: كذا هو في «الموطَّأ» عند جماعة الرُّواة، ورواه إسحاقُ بنُ عيسى الطَّبَّاعُ عنْ مالكٍ عنْ يحيى عنْ سعيدِ بن المسيِّب، عنْ أبي هريرةَ، وهو خطأٌ، ورواه الدَّارَقُطْنيُّ في «غرائب مالكٍ» كما رواه الطَّبَّاع مِنْ حديث أحمدَ بنِ بكرِ بنِ خالدٍ السَّلميِّ، عنْ مالكٍ، وأخرجه مسلمٌ بلفظِ: ((أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الخَبَثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا نَفْيَ الكِيْرِ خَبَثَ الْحَدِيدِ)).
          وفي كتاب «أسباب الحديث» لعبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ أنَّه _صلعم_ قال هذا لَمَّا جاءه الأعرابيُّ يستقيلُهُ البيعةَ، وفي «الموطَّأ» للدَّارَقُطْنيِّ قال يونسُ: قال ابنُ وهْبٍ قلتُ لمالكٍ: ما (تَأْكُلُ القُرَى)؟ قال: تفتحُها، وفي رواية ابنِ حبيبٍ عنه: بِفَتْحِ القرى، وتُفْتَحُ منها القرى لأنَّ مِنَ المدينة افتُتحتِ المدائنُ كلُّها بالإسلام.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: معنى (تَأْكُلُ القُرَى) أي يفتح أهلِها القرى، فيأكلون أموالَهم، ويسبُون ذراريَّهم ويقتُلون مُقاتِلتَهم، وهذا مِنْ فصيح كلام العرب، تقول: أكلْنا بني فلان، وأكلْنا بلد كذا، إذا ظهروا على أهلِه وغلبوهم، وقال الخطَّابيُّ: (تَأْكُلُ القُرَى) يريد أنَّ اللهَ ينصُر الإسلامَ بأهل المدينة _وهم الأنصار_ وتُفتَح على أيديهم القرى، ويُغنمها إيَّاهم فيأكلونها، وهذا في الاتِّساعِ والاختصار كقوله _تعالى_: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] يريد أهلَها.
          وكان _صلعم_ قد عَرض نفسَه على قبائل العرب أيُّهم ينصُره فيفوز بالفخر في الدُّنيا والثَّواب في الآخرة، فلم يجد في القوم مَنْ يرضى بمعاداة مَنْ جاوَرَه، ويبذل نفسه وماله لله، فَمَثَّلَ الله _تعالى_ المدينةَ في منامه، ورأى أنَّه يُؤْمَرُ بالهجرة إليها، وَوَصَفَ ذلك للصِّدِّيق، وقد كان عاقَد قومًا مِنْ أهلها، وسألوه أنْ ينظروا فيما يريدون أنْ يعقدوا معه، فخرج مع الصِّدِّيق إلى المدينة، ففتح اللهُ بها جميع الأمصار، حتَّى مكَّة التي كانت موطنَه.
          وقال ابنُ التِّين: معنى (تَأْكُلُ القُرَى) تفتحُها منها، ويأكل أهلُها غنائم القرى، قال القاضي عبدُ الوهَّاب: لا معنى لقوله: (تَأْكُلُ القُرَى) إلَّا رجوع فضلِها عليها وزيادتها على غيرها، وقال النَّوويُّ: معناه أنَّها مركز جيوش الإسلام في أوَّل الأمر، وأنَّ أكلَها وميرتَها يكون مِنَ القُرى المفتَتَحة، وإليها تُساق غنائمُها.
          وقوله: (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) يريد: أُمِرْتُ بالهجرة إليها، قاله ابنُ بطَّالٍ وابنُ التِّين، فإنْ كان قاله بمكَّة فلائحٌ، وإنْ كان بالمدينة فبِسُكْنَاها.
          وقوله: (يَقُولُونَ يَثْرِبُ) يعني أنَّ بعض النَّاس مِنَ المنافقين يسمُّونها كذلك، فَكَرِهَ أنْ تُسمَّى باسمها في الجاهليَّة، وسمَّاها الله فلا تُسمَّى بغير ما سمَّاها، وكانوا يسمُّونَها يثرِب باسم أرضٍ بها، فغيَّر النَّبيُّ _صلعم_ اسمَها وسمَّاها طَيْبةَ وطابَةَ لحُسن لفظها، كراهةَ التَّثريب، وهو التَّوبيخُ والملامة، وإنَّما سُمِّيت في القرآن بها على وجه الحكاية لتسمية المشركين.
          وفي «مسند أحمدَ» كراهيةُ تَسميتها بذلك، وقد رُوِيَ عنه أنَّه قال: ((مَنْ قَالَ يَثْرِبُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ: الْمَدِيْنَةُ، عَشْرَ مَرَّات))، يريد بذلك التَّوكيد أنْ يُقال لها: المدينة، وصارت معرَّفةً بالألف واللَّام لأنَّها انفردت بجميع خصال الإسلام، ولا يقول أحدٌ: المدينة لبلدٍ فيُعرفُ ما يريد القائل إلَّا لها خاصَّةً.
          وقال عيسى بنُ دينارٍ: مَنْ سمَّاها بذلك كُتبت عليه خطيئةٌ.
          قلتُ: وكان سيِّدنا رسول الله _صلعم_ يحبُّ الاسم الحسن ويكره القبيح، وطيْبةُ مِنَ الطِّيب، وهو الرَّائحةُ الحسنة، والطَّابُ والطِّيب لغتان بمعنًى، وقال الخطَّابيُّ: لطهارة تربتها، وقيل: مِنْ طيب العيش بها، وقال البَكْريُّ في «معجمه»: سُمِّيَتْ بيثربَ بنِ قابلَ بنِ إرَمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ لأنَّه أوَّلُ مَنْ نزلها، وفي «مختصر الزَّاهر» لابن إسحاقَ الزَّجَّاجيِّ: سُمِّيَتْ بيثربَ بنِ قابلةَ بنِ مهلائيلَ بنِ إرمَ بنِ عبيد بنِ عوصِ بنِ إرمَ بنِ سامَ، لأنَّه أوَّل مَنْ سكنها عند الغرق وبناها، ونزل أخوه خيبرُ بنُ قابلةَ بخيبرَ.
          واشتقاق المَدِينَة مِنْ دانَ إذا أطاع، أو مِنْ مَدَنَ بالمكان إذا أقام به، وجمعُها مُدنٌ بإسكان الدَّال وضمِّها، ومدائن بالهمز وتركِه، وهو الفصيح، وبه جاء القرآن، قال ابنُ سِيدَهْ: (المَدِينَةُ) الحصن يُبنى في أصطمة الأرض وعنِ الفارسيِّ: مدينةٌ فَعِيلةٌ، وإذا نُسب إلى المدينة فالرَّجل والثَّوب مَدَنيٌّ، والطَّير ونحوُه مَدينيٌّ، قال سِيْبَوَيْهِ: وأمَّا قولهم: مدائنيٌّ، كأنَّهم جعلوا هذا البناء اسمًا للبلد، وفي «الجامع»: قيل: هي مَفْعِلةٌ، أي: مُلكت.
          وفي «الصِّحاح»: إذا نَسبتَ إلى مدينة المنصور قلتَ: مدينيٌّ، وإلى مدائن كسرى، قلتَ: مدائنيٌّ، وفي «مختصر العين»: رجل مدنيٌّ، وحَمَامٌ مدنيٌّ.
          وقوله: (تَنْفِي النَّاسَ) قال ابنُ فارسٍ: نَفَى الشَّيء ينفيه نفيًا، وانتفى هو، وحكى الهَرَويُّ عنْ أبي منصورٍ: نفيت الشَّيء نفيًا، قال: وهو حرفٌ صحيحٌ غريبٌ في اللُّغة.
          ومعنى الحديث: مَنْ أراد اللهُ _╡_ نقصَ حَظِّه مِنَ الأجر قيَّضه للخروج منها رغبةً عنها، قال ابنُ عبد البرِّ: وأراد شِرارَهم، ألا ترى أنَّه مَثَّل ذلك وشبَّهه بما يَصنع الكِير في الحديد، والكِير إنَّما ينفي رديءَ الحديد وخَبَثَه، ولا ينفي جيِّدَه، قال: وهذا عندي _والله أعلم_ إنَّما كان في حياتِه، فحينئذٍ لم يكن يخرج مِنَ المدينة رغبةً عن جوارِهِ فيها إلَّا مَنْ لا خيرَ فيه، وأمَّا بعد وفاتِه فقد خرج مِنْها الخِيار والفضلاء والأبرار، وكذا قال / القاضي: الأظهرُ أنَّه مختصٌّ بزمنه لأنَّه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلَّا مَنْ ثبت إيمانُه، قال النَّوويُّ: وهذا ليس بظاهرٍ لأنَّ في «صحيح مسلمٍ»: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)) وهذا _والله أعلم_ زمنَ الدَّجَّال.
          و(الْكِيرُ) هو دار الحديد والصَّائغ، وليس الجلد الَّذي تسمِّيه العامَّة كيرًا، كذا قال أهل العلم باللُّغة: ومنه حديث أبي أمامةَ وأبي ريحانةَ مرفوعًا: ((الْحُمَّى كِيْرٌ مِنْ جَهَنَّمَ، وهِيَ نَصِيبُ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ)).
          وفي «المحكم»: (الكِيرُ) الزِّقُّ الَّذي يُنفخ فيه الحداد، والجمع: أكيارٌ وكِيَرٌ، وأمَّا ثعلبٌ فقال في تفسير
مَقاديمُ كِيرانٍ ضِخامَ الأرانبِ
          إنَّ مقاديم الكيران تَسْوَدُّ مِنَ النَّار، فكسَّر كيرًا على كيران، قال: وليس ذلك بمعروفٍ في كتب اللُّغة، إنَّما الكيران جمع الكُور، وهو الرَّحل، ولعلَّ ثعلبًا إنَّما قال: مقاديم الأكيار، قلت: قد ذكر ابنُ دريدٍ وغيره أكيارًا في الجمع.
          وفي «الجامع» للقزَّاز: (الكِيرُ) هو الَّذي يُنفخ فيه ولذلك قال الشَّاعر: كِيرٌ مستعارٌ، وإنَّما يريد الزِّقَّ، وقال قومٌ: (الكِيرُ) الزِّقُّ، والكُور: هو المبنى، وأنكره أكثرهم، وفي الحديث ما يدلُّ على صحَّة اللُّغتين، وفي «الصِّحاح» و«المجمل»: عنْ أبي عمرٍو: كير الحدَّاد، وهو زِقٌّ أو جلدٌ غليظٌ ذو حافاتٍ.
          وقال ابن التِّين: إنَّه الفرن المبنيُّ يُحمَى فيخرجُ فيه خَبَثُ الحديد، وفيه لغتان: كيرٌ وكورٌ، ثمَّ ذَكَر ما نقله القزَّاز السَّالفُ قَبْلُ، والصَّواب أنْ يكون (الكِيرُ) المذكورُ في الحديث الفرنَ لأنَّه هو الَّذي يُسبك فيه الحديد، ففيه يخرج الخَبَث، ومِثلُه الحديث الآخر: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الكِيْرِ، إِنْ لَمْ يَلْحَقْكَ شَرَرُهُ لَحِقَكَ نَتَنُهُ)).
          قال أبو عبد الله بنُ أبي صُفرةَ: هذا الحديث حُجَّةٌ لِمَنْ فضَّل المدينة على مكَّة لأنَّها هي التي أَدخلت مكَّة وسائر القرى في الإسلام، فصارت القرى ومكَّة في صحائف أهل المدينة، وإليه ذهب مالكٌ وأهل المدينة، وَرُوِيَ عنْ أحمدَ خلافًا لأبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، وقد أوضحنا المسألة في باب: فضل مسجد مكَّة والمدينة، فراجعه [خ¦1190].
          قال أبو محمَّدِ بنُ حزمٍ: رَوَى القطعَ بتفضيل مكَّة على المدينة عن سيِّدِنا رسول الله _صلعم_ جابرٌ وأبو هريرةَ وابنُ عمرَ وابنُ الزُّبير وعبدُ الله بنُ عديٍّ _منهم ثلاثةٌ مدنيُّون_ في أسانيد في غاية الصِّحة، قال: وهو قولُ جماعة الصَّحابة وجمهور العلماء.
          واحتجَّ مقلِّدو مالكٍ بأخبارٍ ثابتةٍ، منها قوله: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ))، وهذا لا حجَّة لهم فيه، إنَّما فيه الحُرمة فقط، وبقوله: ((اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَمُدِّنَا)) وبقوله: ((اللهُمَّ اجْعَلْ لِلْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ))، ولا حُجَّة فيه، إنَّما فيه الدُّعاءُ للمدينة، وليس مِنْ باب الفضل في شيءٍ، وبقوله: ((المَدِينَةُ كَالكِيرِ)) ولا حُجَّة فيه لأنَّ هذا إنَّما هو في وقتٍ دون وقتٍ، وقومٍ دون قومٍ، وخاصٍّ دون عامٍّ، وبقوله في النَّسائيِّ: ((لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا المَدِينَةَ وَمَكَّةَ)) ومعنى وطْئِه: أَمْرُه وتَقَوِّيهِ، لا يمكن غيرَ هذا تفسيرٌ لِمَا أسلفناه.
          قلتُ: لكنَّ ظاهرَ حديث فاطمةَ بنتِ قيسٍ في مسلمٍ: ((فَلَا يَدَعُ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطَهَا)) يخالفه، وفي «الأوسط» للطَّبرانيِّ مِنْ حديث أبي هريرةَ وابنِ عمرَ مرفوعًا: ((يَنْزِلُ الدَّجَّالُ خَنْدَقَ الْمَدِينَة، فَأَوَّلُ مَنْ يَتْبَعُهُ النِّسَاءُ وَالْإِمَاءُ)) الحديث، وفي حديث النَّوَّاس بنِ سمعانَ في «الصَّحيح»: شدَّة إسراعه، وبقوله: ((وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) وهذا إنَّما هو إخبارٌ أنَّها لهم خيرٌ مِنَ اليمن والشَّام والعراق، وهو أيضًا في خاصٍّ لا عامٍّ.
          وبقوله: (تَأكُلُ القُرَى) وهذا إنَّما المدينة تفتح الدُّنيا، وقد فُتحت خُراسانُ وسِجِسْتانُ وفارسُ وكَرْمانُ مِنَ البصرة وليس في ذلك دِلالةٌ على فضل البصرة على مكَّة، وبقولِه: ((إِنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ إِلَى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا)) وهذا إنَّما هو خبرٌ عنْ وقتٍ دون وقتٍ، وفيه زيادةٌ توضِّح لو صحَّ ما ذكرناه رواها مسلمٌ: ((إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلى جُحْرِهَا))، ففيه بيانٌ أنَّ الإيمان يَأْرِز بين المسجدين: مسجد مكَّة والمدينة.
          وبقولِ أنسٍ: ((كان _صلعم_ إذا قدِمَ مِنْ سفرٍ فنظر إلى جُدُرات المدينة أوضَعَ راحلتَه مِنْ حُبِّها))، وهذا ليس فيه إلَّا حُبُّها فقط، وبقوله: ((لاَ يَكِيدُ أحدٌ أَهْلَ المَدِينَةِ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ المِلْحُ فِي المَاءِ))، وقال: ((لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِشَرٍّ إِلَّا أَذَابَهُ اللهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ))، و((مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللهُ))، وقال مثلَ هذا فيمَن أحدث فيها حدَثًا أو آوى محدِثًا، وهذا إنَّما فيه الوعيد لِمَن كادَ أهلَها، ولا يحلُّ كيد مسلمٍ.
          وبقولِه: ((لَا يَثْبُتُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وإنَّما فيه الحثُّ على الثَّبات على شدَّتها وأنَّه يكون له شفيعًا، وقد صحَّ أنَّه شفيعٌ لجميع أمَّته، وبقوله: ((اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)) وإنَّما هذا دعاءٌ لا تفضيلٌ، وبقوله: ((لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)).
          وقال أيضًا: ((مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي)) وأرادوا أنْ يبيِّنوا مِنْ هذا أنَّ مكَّةَ مِنَ الدُّنيا كموضع قاب قوسٍ مِنْ تلك الرَّوضة خيرٌ مِنْ مكَّة، وليس كما ظنُّوه، ولو كانت كذلك لكانت مصر والكوفة وهِيْت خيرًا مِنْ مكَّة والمدينة لأنَّه قد صحَّ أنَّه قال: ((سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ))، وهذا ما لا يجوز قولُه، وليس هذان الحديثان كما يظنُّه بعض الأغبياء أنَّ تلك الرَّوضة / قطعةٌ مقتطعةٌ مِنَ الجَّنة، وأنَّ هذه الأنهار تهبط مِنَ الجنَّة، وهذا باطلٌ لأنَّ الله _تعالى_ يقول في الجنَّة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}الآية [طه:118]، فهذه صفة الجنَّة بلا شكٍّ، وليست هذه صفةَ الأنهار المذكورة ولا تلك الرَّوضة، فصحَّ أنَّ قوله: ((مِنَ الجَنَّةِ)) إنَّما هو لفضلها، وأنَّ الصَّلاة فيها تؤدِّي إلى الجنَّة، وأنَّ تلك الأنهار لبركتها أُضيفت إلى الجنَّة كما تقول في اليوم الطَّيِّب: هذا مِنْ أيَّام الجنَّة، وكما قيل في الضَّأن: إنَّها مِنْ دوابِّ الجنَّة.
          قلتُ: قد أخرجه ابنُ ماجَهْ مِنْ طريق ابنِ عمرَ، والبزَّار مِنْ طريق جابرٍ: ((أحنوا إِلى الْمَعْزِ فَإِنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ))، ومِنْ طريق أمِّ هانئٍ في «الأوسط» نحوه، وكما قال _صلعم_: ((الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ)) فهذا في أرض الكفر بلا شكٍّ، وليس في هذا فضلٌ لها على مكَّة، ثمَّ لو صحَّ ما ادَّعوه لَمَّا كان الفضل إلَّا لتلك الرَّوضة خاصَّة لا لسائر المدينة، وهذا خلاف قولهم، فإنْ قالوا: ما قرُبَ منها أفضلُ ممَّا بَعُد، قلنا: فلزمكم أنْ تقولوا: الجُحفةُ ووادي القُرى وخيبرُ أفضلُ مِنْ مكَّة لأنَّها أقربُ مِنْ تلك الرَّوضة إلى مكَّة، وهذا لا تقولونه، وقد رُوِّينا مِنْ طريق النَّسائيِّ مِنْ حديث عطاءِ بنِ السَّائب عنِ ابنِ جُبيرٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ يرفعه: ((إِنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنَ الْجَنَّةِ))، فهذا بمكَّة كالَّذي بالمدينة أنَّه في كلٍّ منهما شيءٌ مِنَ الجنَّة.
          قال واحتجُّوا أيضًا بقوله: ((صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ)) وتأوَّلُوه أنَّ الصَّلاة في مسجد المدينة أفضلُ مِنْ مكَّة بدون ألف، وقلنا نحن: بل هذا الاستثناء لأنَّ الصَّلاة في المسجد الحرام أفضلُ مِنَ الصَّلاة في مسجد المدينة، وكلاهما محتملٌ، وفيه تأويلٌ ثالثٌ وهو: ((إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ)) فإنَّ الصَّلاةَ فيهما سواءٌ، فلا يجوز المصيرُ إلى أحدِ هذه التَّأويلات دون الآخر إلَّا بنصٍّ آخَر.
          وبقوله: ((لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ)) وليس فيه تفضيلٌ عليها لأنَّه أخبر أنَّ مكَّة لا يدخلها الدَّجَّال أيضًا. قلتُ: الكلام في الطَّاعون، مع أنَّه ورد بإسنادٍ ضعيفٍ أنَّها لا يدخلُها طاعونٌ أيضًا.
          وبقوله: (هِيَ طَيْبَةُ) وما لهم خبرٌ صحيحٌ سوى ما ذُكِر، وكلُّها لا حُجَّةَ في شيءٍ منها على ما بيَّنَّا.
          واحتجُّوا بالخبر الصَّحيح أنَّ عمرَ قال لعبد الله بنِ عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ: ((أَنْتَ الْقَائِلُ: لَمَكَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: هِيَ حَرَمُ اللهِ وَأَمْنُهُ، وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللهِ وَلَا بَيْتِهِ شَيْئًا)).
          وهذا حُجَّةٌ عليهم لا لهم لأنَّ ابنَ عيَّاشٍ لم ينكِر لعمرَ أنَّه قال ما قرَّره عليه بل احتجَّ لقوله ذلك بما لمْ يعترض فيه، فصحَّ أنَّ ابنَ عيَّاشٍ _وهو صحابيٌّ_ كان يقول بأنَّ مكَّةَ أفضلُ مِنَ المدينة، وليس في قول عمرَ تفضيلٌ لإحداهما على الأخرى وإنمَّا فيه تقرير عبد الله على قوله فقط، ونحن نوجدُهم عنْ عمرَ تصريحًا بأنَّ مكَّة أفضلُ منها، ثمَّ ساق بإسناده عنه: ((صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِئَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلعم)) ثمَّ قال: وهذا سندٌ كالشَّمس في الصِّحَّة، فهذان صاحبان لا يُعرف لهما مِنَ الصَّحابة مخالفٌ، ومثلُ هذا حجَّةٌ عندهم.
          وعنِ ابنِ المسيِّب: مَنْ نذر أنْ يعتكف في مسجد إيلياءَ فاعتكف بمسجد المدينة أجزأ عنه، ومَنْ نذر أنْ يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه، فهذا فقيهُ أهل المدينة يفضِّل مكَّة على المدينة.
          قال: واحتجُّوا بأحاديث موضوعةٍ يجب التَّنبيه عليها والتَّحذير منها، منها أنَّه رأى رجلًا دُفن بالمدينة فقال: ((لَمِنْ تُرْبَتِهَا خُلِقَ)) وهو خبرٌ موضوعٌ بسبب ابنِ زَبَالةَ، وهو ساقطٌ بالجملة متَّفقٌ على اطِّراحه، ثمَّ هو مِنْ طريق أنيسِ بنِ يحيى، ولا ندري مَنْ أنيسٌ هذا، وَرُوِيَ أيضًا مِنْ طريق أبي خالدٍ _وهو مجهولٌ_ عن يحيى البكَّاء _وهو ضعيفٌ_ ثمَّ لو صحَّ لَما كانت فيه حُجَّةٌ لأنَّه إنَّما كان يكون الفضل لقبره فقط، وإلَّا فقد دُفن فيها المنافقون ودُفن معظم الأنبياء بالشَّام، ولا يقول مسلمٌ: إنَّها أفضلُ مِنْ مكَّة.
          ومنها: ((فُتِحَتِ الْمَدَائِنُ بِالسَّيْفِ وَالْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ)) مِنْ وضع ابنِ زَبالةَ، ثمَّ لو صحَّ فاليمن والبحرين وصنعاء والجَنَد وغيرها لم يفتحوا بالسَّيفِ وإنَّما فتحهنَّ بالقرآن، وليس ذلك بموجبٍ فضلها على مكَّة، قلتُ: تابعه محمَّدُ بنُ موسى الأنصاريُّ وغيره، كما بيَّنه ابنُ عساكرَ في «مجموع الرَّغائب».
          ومنها: ((مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي فِيْهَا مِنْهَا)) وآفتُه ابنُ زبالةَ، ثمَّ لو صحَّ فالشَّارع كره للمهاجرين _وهو سيِّدُهم_ أنْ يرجعوا إلى مكَّة ليُحشروا غرباء مطرودين عنْ وطنهم في ذاته، فلهذا أراد ذلك، ومنها: ((فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ)) وهو موضوعٌ مِنْ رواية ابنِ زبالةَ ومرسلٌ.
          ومنها: ((الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ)) كذا تصريحًا رُوِّيناه مِنْ طرقٍ، فمنها ابنُ زبالةَ صاحب هذه الفضائح كلِّها، المنفردِ بوضعها، ومنها محمَّدُ بنُ عبد الرحمن، وهو مجهولٌ لا يدريه أحدٌ، ومنها عبد اللهُ بنُ نافعٍ، وهو ضعيفٌ بلا خلافٍ.
          وهذا الخبر رُوِّيناه مِنْ طريق مسلمٍ بإسنادٍ في غايةِ الصِّحَّة: ((خَطَبَ مَرْوَانُ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحَرَمَهَا، فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَسْمَعُكَ ذَكَرْتَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحَرَمَهَا، وَلَمْ تَذْكُرِ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحَرَمَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا)) فبدَّلَه أهلُ الجهل.
          قال: وممَّا يدلُّ على فضله، فذكر أمورًا منها: عنِ ابنِ عمرَ مرفوعًا في حَجَّة الوداع: ((أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ قالوا: لا إلَّا بَلَدنَا هَذَا)) الحديث وعنْ جابرٍ أيضًا، فهذان ابنُ عمرَ وجابرٍ يشهدان أنَّ رسول الله _صلعم_ قرَّر النَّاس على: أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمةً؟ فأجابوه بأنَّه مكَّة، فصدَّقهم فيه، وهذا إجماعٌ في إجابتهم مِنْ جميع الصَّحابة له أنَّه بلدهم ذلك، وهم بمكَّة، وذكر حديث أبي هريرةَ، وعبدِ الله بنِ عديِّ بنِ الحمراءِ قال رسول الله _صلعم_: ((إِنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَو تُرِكْتُ فِيْكِ مَا خَرَجْتُ مِنْكِ)) ثمَّ قال: وهذا خبرٌ في غاية الصِّحَّة، رواه عن رسول _صلعم_ هذان.