التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في حرم المدينة

          ░1▒ باب: مَا جَاءَ في حَرَمِ الْمَدِيْنَةِ.
          1867- 1868- 1869- 1870- ذَكر فيه أربعةَ أحاديثَ:
          أحدها: عنْ عَاصِمٍ الأحْوَل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
          ثانيها: حديثه أيضًا مِنْ حديث أَبِي التَّيَّاحِ _واسمه يزيدُ بنُ حُميدٍ_ قال: قَدِمَ النَّبِيُّ _صلعم_ المَدِينَةَ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: (يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي)، فَقَالُوا: لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ، فَأَمَرَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ، فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ.
          ثالثها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ _صلعم_: (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ المَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي)، وَأَتَى النَّبِيُّ _صلعم_ بَنِي حَارِثَةَ، وقَالَ: (أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الحَرَمِ)، ثُمَّ التَفَتَ فَقَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ فِيْهِ).
          رابعها: حديث عَلِيٍّ _☺_ قَالَ: (مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللهِ، وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: المَدِينَةُ حَرَمٌ، مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ...) الحديثَ بطوله.
          الشَّرح: حديث أنسٍ أخرجه مسلمٌ أيضًا، ويأتي في الاعتصام، وحديث أنسٍ الثَّاني سلف في المساجد.
          وحديث أبي هريرةَ أخرجه مسلمٌ لكن بزيادة حدِّها، وهذا لفظه: ((حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِيْنَةِ))، قال أبو هريرةَ: ((فَلَوْ وَجَدْتُ الظِّبَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مَا ذَعَرْتُهَا، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى))، وفي روايةٍ له: ((مَا بَيْنَ لَابَتَي الْمَدِينَةِ حَرَامٌ))، وفي روايةٍ أيضًا: ((الْمَدِينَةُ حَرَمٌ)).
          وحديث عليٍّ أخرجه مسلمٌ مطوَّلًا أيضًا بلفظ: ((الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ))، ولمْ يذكر البخاريُّ ثورًا، وإنَّما عبَّر عنه بكذا في طرقه كلِّها، إلَّا في رواية الأَصيليِّ في كتاب الجزية والموادعة، فإنَّه وقع له فيها: <إلى ثورٍ>. /
          إذا تقرَّر ذلك، فالكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: قوله: (مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا) وفي روايةٍ: (مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا)، وأسلفنا: ((مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ)) بإسقاط الألف واختلف النَّاس فيهما هل هما بالمدينة أو بمكَّة، والحقُّ أنَّهما بالمدينة وأنَّهما معروفان، قال ابنُ المُنَيِّر: قوله: (مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا) سكت عنِ النِّهاية، وقد جاء في طريقٍ آخر: ((مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ)).
          قال: والظَّاهر أنَّ البخاريَّ أسقطها عمدًا لأنَّ أهل المدينة ينكرون أنْ يكون بها جبلٌ يُسمى ثورًا، وإنَّما ثورٌ بمكَّة، فلمَّا تحقَّق عندَه أنَّه وهْمٌ أسقطه وذَكَر بقيَّة الحديث، وهو مقيَّدٌ يعني بقوله: (مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا) إذ البداءة يتعلَّق بها حكمٌ، فلا تُترك لإشكالٍ سَنَحَ في حكم النِّهاية، قلتُ: قد أسلفنا أنَّه ذَكَرها في الجزية والموادعة، نعم أنكر مصعبٌ الزُّبيريُّ وغيرُه هاتين الكلمتين _أعني عيرًا وثورًا_ وقالوا ليسا بالمدينة، عَيْرٌ بمكَّة.
          قال صاحب «المَطالِع»: بعضُ رواة البخاريِّ ذكروا عيرًا، وأمَّا (ثَوْرٌ) فمنهم مَنْ كنَّى عنه بكذا، ومنهم مَنْ ترك مكانه بياضًا إذِ اعتقدوا الخطأَ في ذكره، وقال أبو عبيدٍ: كأنَّ الحديث: ((مِنْ عَيْرٍ إِلَى أُحُد)).
          قلتُ: وكذا رواه الطَّبَرانيُّ في «أكبر معاجمه» مِنْ حديث عبدِ الله بنِ سَلامٍ، وقد ذكر البكريُّ عنْ أبي عبيدٍ أيضًا أنَّه بالمدينة، فلعلَّه رجع آخِرًا، وذكر الإمام أبو محمَّدٍ عبدُ السَّلام بنُ مزروعٍ البصريُّ أنَّه لَمَّا خرج رسولًا مِنْ صاحب المدينة إلى العراق كان معه دليلٌ يذكر له الأماكن والأجبلة، فلمَّا وصل إلى أُحُدٍ إذا بقربه جُبيْلٌ صغيرٌ فسأله: ما اسم هذا الجبل؟ قال: هذا يُسمى ثورًا، قلتُ: فصحَّ الحديث، ولله الحمد.
          وقال المحبُّ الطَّبريُّ: هو جبلٌ بالمدينة رأيتُه غير مرَّةٍ وحدَّدتُه، ولما ذكر ياقوتُ قول عِياضٍ قال بعضهم: ليس بالمدينة، ولا على مقرُبةٍ منها جبلٌ يُعرف بأحد هذين الاسمين، قال: قلتُ أنا، وهذا مِنْ قائله وهْمٌ، فإنَّ عيرًا جبلٌ مشهورٌ بالمدينة، قال عِياضٌ: وبيَّض آخرون موضع (ثَوْرٍ) في الحديث، ومنهم مَنْ روى: (مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا).
          وفي رواية النَّسَفيِّ وابنِ السَّكَن: <مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا وَكَذَا>، في رواية أبي عليٍّ مِنْ رواية أبي كثيرٍ.
          وقال آخرون: بلِ الرِّواية الصَّحيحة أنَّه حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى أُحُد، وأنَّ ثورًا بمكَّة وعَيرًا بالمدينة، وما بين ذلك بإجماعهم غير محرَّم.
          (عَيْر) اسم جبلٍ بقرب المدينة، وهو بفتح العين، ثمَّ مثنَّاةٍ تحتُ ساكنةٍ، ثمَّ راءٍ مهملةٍ، قاله ابنُ السَّيِّد في «مثلَّثه» وأغربَ ابنُ قُدامةَ حيث قال: يحتمل أنْ يكون أراد قدر ما بين ثورٍ وعيرٍ اللذين بمكَّة، ويحتمل أنَّه أراد جبلين بالمدينة، وسمَّاهما عيرًا وثورًا تجوُّزًا، وهما احتمالان بعيدان، وعند ثبوت ذلك ومعرفتهما فلا اعتراضَ ولا احتمالَ.
          وكذا قال ابنُ بطَّالٍ: (عَائِرٍ) جبلٌ بقرب المدينة، ويروى (عَيْرٌ)، قال: و(ثَوْرٌ) جبلٌ معروفٌ أيضًا وكذا قال الدَّاوُديُّ: (عَيْرٌ) جبلٌ بالمدينة، وخالَف ابنُ فارسٍ فقال: بمكَّة، وقيل: إنَّه بريدٌ في بَريدٍ في جوانبها كلِّها، نقله ابنُ التِّين عنِ الشَّيخ أبي محمَّدٍ، ولَمَّا رأى بعضُ الحنفيَّة هذا الاختلافَ عدَّه اضطرابًا ورتَّب عليه ألَّا حَرَمَ لها، ولا يُسلَّم له.
          ثانيها: حرم مدينة سيدنا رسول الله _صلعم_ ما ذكرناه.
          واللابتان: الحَرَّتان، وهي أرضٌ تركبها حجارةٌ سودٌ، وهما الطَّرفان، قال أبو عبيدٍ: وجمعها لابٌ ولوبٌ، كقارةٍ وقورٍ، وجُمعت أيضًا على لاباتٍ، ما بين الثَّلاث إلى العشر، وهما غربيَّة وشرقيَّة.
          قال ابنُ حَبيبٍ: وتحريم رسول الله _صلعم_ لابَتَيِ المدينة إنَّما ذلك في الصَّيد، فأمَّا في قطع الشَّجر فبَريدٌ في بَريدٍ في دَوْرِ المدينة كلِّه، كذلك أخبرني مطرِّفٌ عنْ مالكٍ، وهو قول عمرَ بنِ عبدِ العزيز، وللمدينة حَرَّتان أيضًا، حَرَّةٌ في القبليَّة وحَرَّةٌ في الجوف، وترجع كلُّها إلى الحَرَّتين، لأنَّ القبليَّة والجوفيَّة متَّصلتان بهما، ولذلك حرَّم رسول الله _صلعم_ ما بين لابتي المدينة، جمع دورها كلَّه في اللَّابتين، وقد ردَّها حسَّانُ بنُ ثابتٍ إلى حَرَّةٍ واحدةٍ فقال:
لنا حَرَّةٌ مأطورةٌ بجبالها                     بنى العزُّ فيها بيتَه فتأثَّلا
          وقوله: مأطورةٌ يعني مقطوعةً بجبالها لاستدارتها، وإنَّما جبالُها الحجارة السُّود الَّتي تُسمَّى الحِرار، وقالوا: أسودُ لُوبِيٌّ ونُوبِيٌّ، منسوبٌ إلى اللُّوبة والنُّوبة، حكاه في «المحكم».
          ثالثها: إنْ قلتَ: ما إدخال حديث أنسٍ في بناء المسجد في هذا الباب بعد قولِه: (لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا)؟ قلتُ: وجهُه كما قال المهلَّب: ليعرِّفك أنَّ قَطْعَ النَّخل كان ليبوِّئ المسلمين مسجدًا.
          ففيه مِنَ الفقه: أنَّ مَن أراد أنْ يتَّخذ جِنانًا في حرم المدينة ليعمِّرها ويغرس فيها النَّخل، ويزرع فيها الحبوب، أنَّه لا يَتوجَّه إليه النَّهي عنْ قطع شجرها ولا يُمنع مِنْ قطع ما فيه مِنْ شجر الشُّعراء وشوكها لأنَّه يبتغي الصَّلاح والتَّأسيس للسُّكنى في موضع العمارة، فهذا يبيِّن وجه النَّهي أنَّه موقوفٌ على المفسِد لبهجة المدينة ونضرتها وخضرتها لعين المهاجِر إليه حتَّى تبتهج نفسه ويرتاح بمبانيها، وإنْ كان ابتهاجُه بمسجدها _الَّذي هو بيت الله ╡ ومنزلُ ملائكتِه ومحلُّ وحيِه_ أعظمَ والسُّرورُ به أشدَّ.
          وقيل: قطعُه _صلعم_ للنَّخيل مِنْ موضع المسجد يدلُّ أنَّ النَّهي / يتوجَّه إلى ما أنبته الله تعالى مِنَ الشَّجر، ممَّا لا صُنع فيه لآدميِّ لأنَّ النَّخيل الَّتي قُطعت مِنْ موضع المسجد كان لغرس الآدميِّين لأنَّه طلب شراء الحائط مِنْ بني النَّجار إذْ كان ملكًا لهم، فقالوا: (لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ)، وعلى هذا التَّأويل حُمِلَ نَهْيُه _صلعم_ عنْ قطع شجر مكَّة.
          واستَضعف بعضُهم جواب المهلَّب أنَّ القطع كان للبناء، وفيه مصلحةٌ للمسلمين، وقال: يلزمه أنْ يقول به في حرم مكَّة أيضًا ولا قائلَ به، ثمَّ ادَّعى أنَّه هو ما فهمه البخاريُّ، أنَّها ليست حرامًا، إذ لو كانت كذلك لم يقطع شجرها، وهو بعيدٌ.
          رابعها: اتَّفق مالكٌ والشَّافعيٌّ وأحمدُ وجمهورُ الفقهاء على أنَّ الصَّيد مُحرَّمٌ في حرم المدينة، وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: صيدها غير محرَّمٍ وكذلك قطع شجرها فخالف أحاديثَ الباب، واحتجَّ الطَّحاويُّ بحديث أنسٍ أنَّه _صلعم_ دخل دارَهم، وكان لأنسٍ أخٌ صغيرٌ، وكان له نُغرٌ يلعب به، فقال له رسول الله _صلعم_: ((يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ)).
          ولا حجَّة فيه لأنَّه ممكنٌ أنْ يُصاد ذلك النُّغَر مِنْ غير حرم المدينة، قالوا: وبدخوله الحرم صار حَرَمِيًّا، ولا نسلِّم لهم ذلك، وَرُوِيَ عنْ عائشةَ: ((كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللهِ _صلعم_ وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ لَعِبَ وَاشْتَدَّ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللهِ _صلعم_ قَدْ دَخَلَ، رَبَضَ)). قالوا: فحَبْسُ الوحش وإغلاقُ الباب عليه دليلٌ على إباحته.
          وفي البيهقيِّ مِنْ حديث سلمةَ بنِ الأَكْوع قال: كنت أرمي الوَحْشَ، وأُهدي لحومها إلى رسول الله صلعم، وفيه: فقال لي رسول الله _صلعم_: ((لَوْ كُنْتَ تَصِيدُ بِالْعَقِيقِ، لَشَيَّعْتُكَ إِذَا ذَهَبْتَ، وَتَلَقَّيْتُكَ إِذَا جِئْتَ))، قال البَيْهَقيُّ: حدَّث به موسى بنُ إبراهيمَ، وهو حديثٌ ضعيفٌ، وهو يخالف حديثَ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ في العقيق.
          حُجَّة الجماعة أنَّ الصَّحابة فهمتْ مِنَ النَّبيِّ _صلعم_ تحريمَ الصَّيدِ في حرم المدينة لأنَّهم أُمِرُوا بذلك وأفتَوا به، وهم القدوة الَّذين يجب اتِّباعُهم، وروَوه أيضًا أبو هريرةَ وغيرُه ممَّنْ سلف، وسعدٌ في مسلمٍ، ورافعُ بنُ خَديجٍ وجابرٌ وعبدُ الله بنُ زيدِ بنِ عاصمٍ وسهلُ بنُ حُنَيفٍ وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ وعَديُّ بنُ حاتمٍ وعُبادةُ وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ وزيدُ بنُ ثابتٍ.
          وروى جعفرُ بنُ محمَّدٍ قال: اطَّلع علَيَّ عليُّ بنُ حسينٍ وأنا أنتِفُ صُدْغَيْ عُصفورٍ فقال: خلِّ سبيله، هذا حرَمُ رسول الله صلعم، وَرُوِيَ عنْ أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ كان يضرب بَنِيهِ إذا صادوا فيه ويرسل الصَّيد، وأخذ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ سَلَبَ مَنْ صاد في حرمِها وقطَعَ شجرها، ورواه عنِ النَّبيِّ _صلعم_ إلَّا أنَّ أئمَّة الفتوى لم يقولوا بأخذ سَلَبِه، وإنْ كان هو المختار.
          قال أبو عمَرَ: واحتُجَّ لأبي حنيفةَ بحديث سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ مرفوعًا: ((مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِي حُدُودِ الْمَدِينَةِ أَوْ يَقْطَعُ شَجَرِهَا فَخلُّوا سبيلَه)) قال: وقد اتَّفق العلماء على أنَّه لا يؤخذ سلب مَنْ صادَ في المدينة، فدلَّ على أنَّه منسوخٌ.
          قال: ويحتمل أنْ يكون معنى النَّهي عن صيدها وقطْعِ شجرِها لأنَّ الهجرة كانت إليها، فكان بقاء الصَّيد والشَّجر ممَّا يزيد في تزيُّنها ويدعو إلى إلفها، كما روى ابنُ عمرَ أنَّ النَّبيَّ _صلعم_ نهى عن هدم آطام المدينة فإنَّها مِنْ زينة المدينة، قال: وليس في حديث سعدٍ حُجَّةٌ لضعفه، ولو صحَّ لم يكن في نَسْخ أخذ السَّلب ما يُسقِط ما صحَّ مِنْ تحريم المدينة.
          وقوله: (حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا عَلَى لِسَانِي) يريد أنَّ تحريمها كان بالوحي، فوجب تحريمُ صيدِها وقطعِ شجرها، إلَّا أنَّ جمهور العلماء _كما قاله المهلَّب_ على أنَّه لا جزاء في حَرَمِها، لكنَّه آثمٌ عندهم مَنِ استحلَّه، فإنْ قال الكوفيُّون: لَمَّا أجمعوا على سقوط الجزاء في حرمها دلَّ أنَّه غير مُحرَّم، فالجواب أنَّه لا حجَّة في هذا لأنَّ صيد مكَّة قد كان محرَّمًا على غير هذه الأمَّة، ولم يكن عليهم فيه جزاءٌ، وإنَّما الجزاء فيه على أمَّة محمَّدٍ _صلعم_ فليس إيجاب الجزاء فيه علَّةً للتَّحريم.
          وشذَّ ابنُ أبي ذئبٍ وابنُ نافعٍ صاحبُ مالكٍ والشَّافعيُّ في أحد قوليه، فأوجبوا فيه الجزاء واستدلَّ على سقوطه بأنَّه _صلعم_ لما حرَّمها وذَكر ما ذَكر، لم يذكر جزاءً على مَنْ قتل الصَّيد، وما كان مِنْ جهته _صلعم_ ليس ببيانٍ لِما في القرآن، فليس بمحرَّمٍ تحريمَ القرآن، وإنَّما هو مكروهٌ حتَّى يكون بين تحريمِه وبين تحريمِ القرآن فرقٌ.
          وحديثُ سعدٍ السَّالفُ في أخْذِ سلَبِه فلم يصحَّ عند مالكٍ ولا رأى العملَ عليه بالمدينة، ولو صحَّ لأوجب الجزاء على مَنْ لا سَلَبَ له، ولو لم يكن على القاتل إلَّا ما يستر به عورتَه لم يجُزْ أخذُه، وكشفُ عورتِه، فثبت أنَّ الصَّيد ليس مضمونًا أصلًا، ألَا ترى أنَّ صيد مكَّة لَمَّا كان مضمونًا لم يفترق حكمُ الغنيِّ والفقير، ومَنْ له سَلَبٌ ومَنْ لا سَلَبَ له في أنَّه مضمونٌ عليه أيَّ وقتٍ قدر، وقد قال مالكٌ: لم أسمع أنَّ في صيد المدينة جزاءً، ومَنْ مضى أعلم ممَّنْ بقي، فقيل له: فهل يُؤْكَل؟ فقال: ليس كالَّذي يُصاد بمكَّة، وإنِّي لا أكرهه.
          خامسها: قول عَليٍّ ☺: (مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ سِوَى كِتَابِ اللهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيْفَةِ)، فيه ردٌّ على ما يدَّعيه الشِّيعة مِنْ أنَّ عليًّا عنده وصيةٌ مِنْ سيدنا رسول الله _صلعم_ بأمورٍ كثيرةٍ مِنْ أسرار العلم وقواعد الدِّين، / وفيه جوازُ كتابة العلم.
          سادسها: في حديث أنسٍ وعليٍّ لعنةُ أهل المعاصي والمعانِدِ لأوامر الشَّرع.
          وفيه أنَّ المحدِثَ في حرم المدينة والْمُؤوِيَ للمُحدِث في الإثم سواءٌ كما في حرم مكَّة، وأنَّ مَنْ فعل ذلك فهو كبيرةٌ، لأنَّ اللَّعنَ لا يكون إلَّا عليها، لا سيَّما ما في هذا مِن المبالغة في الطَّرد والإبعاد عنِ الجنَّة لا عنِ الرَّحمة، كلعن الكفَّار، والمراد باللَّعن هنا: العذاب الَّذي يستحقُّه على ذنبه.
          قال الخطَّابيُّ: رُوي ((مُحْدَثًا)) _بفتح الدَّال_ معناه: الرَّأي المحدَث في الدِّين والسُّنَّة، أراد الإحداث نفسَه، قال: ويُروى بكسر الدَّال، يريد الَّذي أحدثه وفَعَلَه وجاء به، قال أبو عبيدٍ: الحَدَثُ كلُّ حَدٍّ لله _تعالى_ يجب على صاحبه أنْ يُقام عليه، وهو شبيهٌ بحديث: في الرَّجل يأتي حدًّا مِنَ الحدود ثمَّ يَلجأ إلى الحرم أنَّه لا يُقام عليه فيه، ولكنَّه يُلجأ حتَّى يَخرج منه، فإذا خرج منه أُقيم عليه، فجعل الشَّارع حُرمة المدينة كحرمة مكَّة في المأثم في صاحب الحدِّ ألَّا يُؤْوِيَه أحدٌ حتَّى يَخرج منه فيُقام عليه الحدُّ، وقد سلف ما في هذا [خ¦1833].
          وقوله: (آوَى) قال القاضي: أوى وآوى بالقصر والمدِّ في الفِعل اللَّازم والمعتدِّي جميعًا، لكنَّ القصرَ في اللَّازم أشهرُ وأفصح، والمدَّ في المتعدِّي أشهرُ وأفصح، وبالأفصح جاء القرآن، قال _تعالى_: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف:63] فهذا في اللَّازم، وقال في المتعدِّي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50].
          سابعها: في قول بني النَّجار: (لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ) فيه مِنَ الفقه: إثباتُ الأحباس المرادِ بها وجهُ الله لأنَّهم وهبوا البقعة للمسلمين حبْسًا موقوفًا عليهم، وطلبوا الأجر على ذلك مِنَ الله.
          ثامنها: في حديث أبي هريرةَ مِنَ الفقه أنَّ للعالِم أنْ يقول على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ يَنظر فيصحِّح النَّظر ويقول بعد ذلك، كما قال _صلعم_ لبني حارثة.
          تاسعها: قوله: (لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ) هذا يمكن أنْ يكون في وقتٍ دون وقتٍ إنْ أنفذ الله عليه الوعيد، ليس هذه حالَهُ عند الله أبدًا لأنَّ الذُّنوب لا تُخرِج مِنَ الدِّين إنمَّا يُخرج منه الكفرُ، أعاذنا الله منه.
          ومعنى (أَخْفَرَ مُسْلِمًا) نقض عهده، قال الخليل: أخفرتُ الرَّجل إذا لم تفِ بذمَّتِه، والاسم الخُفُور، وقال ابنُ فارسٍ: يُقال: أخفرَ عهدَه نقضَه، وخفره إذا أمَّنه، وأخفرته جعلت معه خفيرًا، قال: وأخفرت الرَّجل: نقضت عهده.
          والذِّمَّةُ العهدُ والأمان، فأمان المسلم للكافر صحيحٌ ويحرم التَّعرُّض له ما دام في الأمان.
          وقوله: (يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) حُجَّةٌ لِمَنْ أجاز أمانَ العبدِ والمرأة وهو مذهب مالكٍ والشَّافعيِّ، لأنَّهما أدنى مِنَ الأحرار الذُّكور، وأبى ذلك أبو حنيفةَ فقال: إلَّا أنْ يكون سيِّدُه أذن له في القتال.
          والصَّرْفُ والعَدْلُ قال أبو عبيدةَ: العدل الحيلة، وقيل: الْمِثْل، وقيل: الصَّرفُ الدِّيَة، والعدل الزِّيادة، وقال أبو عبيدٍ عنْ مكحولٍ: الصَّرفُ التَّوبة، والعدلُ الفدية، قال أبو عبيدٍ: تصديقُه في القرآن قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70]، وأمَّا الصَّرفُ فلا أدري قولَه _تعالى_: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا} [الفرقان:19] مِنْ هذا أم لا؟ وبعضُ النَّاس يحملُه على هذا، ويُقال: إنَّ الصَّرفَ النَّافلةُ، والعدلَ الفريضةُ، قال أبو عبيدٍ: والتَّفسيرُ الأوَّل أشبه بالمعنى، وعَكَس الحسن فقال: الصَّرف الفريضة، والعدل النَّافلة. وقال الأصمعيُّ: الصَّرفُ التَّوبة، والعدل الفِدية، وَرُوِيَ ذلك مرفوعًا، وقال يونسُ: الصَّرف الاكتساب، والعدل الفدية.
          وقال أبو عليٍّ البغداديُّ: الصَّرف الحيلة والاكتسابُ، والعدل الفدية والدِّية، صحيحٌ في الاشتقاق، فأمَّا مَنْ قال: الصَّرف الفريضة، والعدل النافلة، والصَّرف الدِّية، والعدل الزِّيادة على الدِّيَّة، فغير صحيحٍ في الاشتقاق.
          وقال الطَّبريُّ: الصَّرف مصدرٌ مِنْ قولك: صرفتُ نفسي عنِ الشَّيء، أصرِفُها صرفًا، وإنَّما عنى به في هذا الموضع صرفَ راكب الذَّنب وهو المحدِثُ في الحرم حَدَثًا مِنْ سفْكِ دمٍ، أو استحلالِ مُحَرَّمٍ، فلا تُقبل توبته.
          والعَدْل: ما يَعدله مِنَ الفدية والبدَل، وكلُّ ما عادل الشَّيء مِنْ غير جنسه وكان له مِثلًا مِنْ وجه الجزاء لا مِنْ وجه المشابهة في الصُّورة والخِلقة فهو له عَدل بفتح العين، ومنه قوله _تعالى_: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام:70]، بمعنى وإنْ تفدِ كلَّ فديةٍ.
          وأمَّا العِدل _بكسر العين_ فهو مِثلُ الحِمل المحمول على الظَّهر، يُقال: عندي غلامٌ عِدلُ غلامِك، وشاةٌ عِدلُ شاتِك _بكسر العين_ إذا كان يعدِلُه، وذلك في كلِّ مِثْلِ الشَّيء مِنْ جنسه، فإذا أراد أنَّ عندَه قيمته مِنْ غير جنسه فُتحت العين، فتقول: عبدي عَدلُ شاتِك مِنَ الدَّراهم، وقد ذُكر عن بعض العرب أنهم يكسرون العين مِنَ العدل الَّذي هو الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم.
          وفي «المحكم»: الصَّرفُ الوزن، والعدل الكيل، وقيل: الصَّرف القيمة، والعدل الاستقامة، قال عِياضٌ: فقيل في معنى ذلك: أي لا تُقبَل فريضتُه ولا نافلتُه قَبول رضًا وإنْ قُبِلَت قَبول جزاءٍ، وقيل: القَبول هنا بمعنى تكفير الذَّنب بها، قال: وقد تكون بمعنى الفدية هنا، لأنَّه لا يجد في القيامة فِداءً يفتدي به، بخلاف غيره مِنَ المذنبين الَّذين يتفضلُ الله على مَنْ شاء منهم بأنْ يفديَه مِنَ النار بيهوديٍّ أو نصرانيٍّ، كما ثبت في «الصَّحيح».
          وقال ابنُ التِّين: تحصَّلنا على ستَّة أقوالٍ في الصَّرف: الحيلة، النَّافلة، التَّوبة، الفريضة، الاكتساب، الوزن، والعدلِ أربعةٍ: النَّافلة، الفدية، الفريضة _قاله البخاريُّ وغيرُه_ الكيل قاله القزَّاز عنْ غيره، وقال ابنُ فارسٍ: العدل الفداء هنا.
          عاشرها: معنى قوله: (غَيْرِ مَوَالِيهِ) يحتمل الحِلْف والموالاة، ولم يجعل إذْن الْمَوالي شرطًا في جواز ادِّعاء نسبٍ أراد، لكنْ ذَكره توكيدًا للتَّحريم، يُبيِّنُه الحديث الآخر: ((مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيْهِ فَعَلَيهِ لَعْنةُ اللهِ)).