التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا يدخل الدجال المدينة

          ░9▒ بَابٌ: لاَ يَدْخُلُ الدَّجَّالُ المَدِينَةَ.
          ذَكر فيه أربعةَ أحاديثٍ:
          1879- أحدُها: حديثُ إِبرَاهِيْمَ بْنِ سَعْدٍ _وهو ابنُ إبراهيمَ_ عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي بكْرَةَ _وهو نفيعُ بنُ الحارث_ عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ).
          1880- وحديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_: (عَلَى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، وَلاَ الدَّجَّالُ).
          1882- وحديثُ أَبِي سَعِيْدٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ _صلعم_ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فيما حَدَّثَنَا بِهِ أَنَّه قَالَ: (يَأْتِي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ، يَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ، الَّذي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللهِ _صلعم_ حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَوْم، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَقْتُلُهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ).
          1881- وحديثُ أَبِي عَمْرٍو _هو الأوزاعيُّ_ عبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_ قَالَ: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلَّا مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، لَيْسَ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ).
          الشَّرح: حديث أبي بكرةَ مِنْ أفراده، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أخرجه مسلمٌ، وحديث أَبَي سَعِيْدٍ أيضًا، وسيأتي مطوَّلًا في ذكر بني إسرائيلَ، وحديث أنسٍ أخرجه مسلمٌ في الفتن، والنَّسائيُّ في الحجِّ.
          و(أَنْقَابِ) و(نِقَابَ): جمع نَقَبٍ، قال ابنُ وهْبٍ: يعني مداخِلَها، وقال غيره: هي أبوابها وفوَّهات طُرُقِها التي يدخل منها إليها، قال الخطَّابيُّ: هي طريقٌ في رأس الجبل، وقال الدَّاوُديُّ: هي الطُّرق الَّتي يسهِّلُها النَّاس، ومنه: {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق:36] وضبْطُ ابنِ فارسٍ أنَّه بالسُّكون يقتضي ألَّا يكون جمعُه (أَنْقَابًا) كما رواه أبو هريرةَ، وإنَّما يجمع على (نِقَابَ) كما رواه أبو سعيدٍ.
          وقال أبو المعاني في «المنتهى»: (النَّقْبُ) الطَّريق في الجبل، وكذلك النَّقَبُ والمنقَب والمنقَبة عَنْ يعقوبَ، وقال ابنُ سِيدَهْ: (النَّقْبُ) والنَّقَب في أيِّ شيءٍ كان نَقَبَه ينقُبُه نقبًا، وعَنِ القزَّاز: ويُقال أيضًا نِقْبٌ بكسر النُّون. وقال الأخفش: أنقابها طرقها، الواحد (نَقْبٌ) وهو مِنَ الآية السَّالفة أي: جعلوا فيها طرقًا ومسالكَ، وقال غيره: و(نِقَاب) أيضًا جمع (نَقْبٌ)، ككلبٍ وكلابٍ، وتُجمع فَعْلٌ اسمًا على فِعالٍ وفُعولٍ قياسًا مطَّردًا.
          وفي هذه الأحاديث برهانٌ ظهر لنا صحَّتُه وعلِمْنا أنَّ ذلك مِنْ بركة دعائه للمدينة، وقد أراد عمرُ والصَّحابة أنْ يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشَّام ثقةً / منهم بقوله _◙_ الَّذي أَمَّنَهم مِنْ دخول الطَّاعون بلدَهم، وكذلك نوقن أنَّ الدَّجال لا يستطيع دخولها أَلبتَّة، وهذا فضلٌ عظيمٌ لها، وقد أخبر الله أنَّه يوكِّل الملائكة بحفظ مَنْ شاء مِنْ عباده مِنَ الآفات والعدوِّ والفتن، فقال _تعالى_: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [الرعد:11]، يعني بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنَّصر لهم والدُّعاء والاستغفار لذنوبهم، ويستعدُّون لهم، وسيأتي معنى حديث الدَّجَّال وفتنته في موضعه، وهو كتاب الفتن، إنْ شاء الله تعالى.
          وفي حديث أنسٍ أنَّ الدَّجَّال لا يدخل مكَّة أيضًا وهو فضلٌ كبيرٌ أيضًا لها وللمدينة على سائر الأرض.
          وقوله: (لاَ يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ) لا يعارضه حديث أنسٍ: (تَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ) والرَّجف رعبٌ، فإنَّما الرَّجفة تكون مِنْ أهل المدينة على مَنْ فيها مِنَ المنافقين والكافرين، فيُخرجونَهم مِنَ المدينة بإخافتهم إيَّاهم تغايظًا عليهم وعلى الدَّجَّال، فيَخرج المنافقون إلى الدَّجَّال فرارًا مِنْ أهل المدينة ومِنْ قوَّتهم عليه، و(الرُّعْبُ) الخوف، يُقال: رَعَبْتُهُ فهو مرعوبٌ، ولا تقل: أرعبته.
          قال ابنُ التِّين: وضبط (الْمِسِّيحِ) هنا بكسر الميم وتشديد السَّين، سُمِّي بذلك لأنَّه يمسح الأرض _أي يقطعها_ أو لأنَّه ممسوح العين اليمنى، وسلف الاختلاف في عيسى _صلعم_ لِمَ سُمِّي مسيحًا؟
          و(الدَّجَّالِ) مشتقٌّ مِنَ الدَّجل، وهو التَّمويه أو التَّغطية، قال ابنُ دُريدٍ: لأنَّه يغطِّي الأرض بالجمع الكثير. و(الطَّاعُونُ) الوباء.
          قال الدَّاوُديُّ: والدَّجَّالون ثلاثون، كلُّهم يزعم أنَّه نبيٌّ إلَّا الأعورَ فإنَّه يزعم أنَّه إلهٌ، وهو في مُسلمٍ بدون الاستثناء، والَّذي أُعطي مِنْ قتْلِه الرَّجلَ وإحيائه، فقد أتبع ذلك بأنَّه يريد قتله فلا يُطيقه، فيكون ذلك سبب هلاكِه، وينزل ابنُ مريم _صلعم_ حَكمًا عدلًا فيقتُلُه.
          ومعنى (رَجْفُ الْمَدِيْنَة): اضطرابُها، ويكون بها زلزلةٌ وأمرٌ يُرْعَبُ عنه كلُّ منافقٍ، ويثبِّت الله المؤمنين.
          واحتجَّ القاضي في «معونته» بهذا الحديث على فضل المدينة على البقاع التي لم تُحْرَسْ مِنْ ذلك، وحديث أنسٍ يردُّه، فإنَّ فيه أنَّ مكَّةَ أيضًا محروسةٌ مِنَ الدَّجَّال.