شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ورد من أن الجار أحق بسقبه

          [░2▒ بَاب
          فيه: أَبُو رَافِعٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ). [خ¦6980]
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنِ اشْتَرَى دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَحْتَالَ حِينَ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَيَنْقُدَهُ تِسْعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَتِسْعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَيَنْقُدَهُ دِينَارًا بِمَا بَقِيَ مِنَ العِشْرِينَ الأَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ طَلَبَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِالعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَإِلَّا فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلى الدَّارِ. فَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الدَّارُ رَجَعَ المُشْتَرِي عَلَى البَائِعِ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ، وَهُوَ تِسْعَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَتِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا وَدِينَارٌ، لِأَنَّ البَيْعَ حِينَ اسْتُحِقَّ انْتَقَضَ الصَّرْفُ فِي الدِّينَارِ، فَإِنْ وَجَدَ بِهَذِهِ الدَّارِ عَيْبًا، وَلَمْ تُسْتَحَقَّ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا. قَالَ فَأَجَازَ هَذَا الخِدَاعَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فقد قال النَّبِيُّ صلعم: (بَيْعُ المُسْلِمِ، لاَ دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ وَلاَ غَائِلَةَ).
          وفيه: أَبُو رَافِعٍ: أنَّهُ سَاوَمَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بَيْتًا بِأَرْبَعِ مِائَةِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ: لَوْلا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ) مَا أَعْطَيْتُكَ. [خ¦6981]
          يمكن أن يبيع الشقص من صديقٍ له يحبُّ نفعه بعشرة آلاف درهمٍ ودينارٍ ويكتب له في وثيقةِ الشراء عشرين ألف درهمٍ، وهو يعلم أنَّ الشريك لابدَّ له أن يقوم على المشتري بالشفعة، فإذا وجد في وثيقته عشرين ألف درهمٍ أخذ الشقص بذلك فهو قصد إلى الخداع.
          وقوله: لينقده دينارًا بالعشرة آلاف درهمٍ إنَّما قال ذلك؛ لأنَّه يجوز عند الأمَّة بيع الذهب بالفضَّة متفاضلًا كيف شاء المتبايعان. فلمَّا جاز هذا بإجماعٍ بنى عليه أصله في الصرف، فأجاز عشرة دراهم ودينارًا بأحد عشر درهمًا، جعل العشرة دراهم بعشرة دراهم وجعل الدينار بدل الدرهم.
          وكذلك جعل في هذه المسألة الدينار بعشرة آلاف درهمٍ وأوجب على الشفيع أن يؤدِّي ما انعقدت له به الصفقة دون ما نقد فيها المشتري، كأنَّه قال: من حقِّ المشتري أن يقول إنَّما أخذ منك أيُّها الشفيع ما أبيعت به الشقص لا ما نقدت فيه؛ لأنَّه تجاوز لي البائع بعد عقد الصفقة عمَّا شاء ممَّا وجب له عليَّ.
          وأمَّا مالكٌ رحمة الله عليه، فإنَّما يراعي في ذلك النقد وما حصل في يد البائع منه يأخذ الشفيع.
          ومن حجَّته في ذلك أنَّه لا خلاف بين العلماء أنَّ الاستحقاق والردَّ بالعيب لا يرجع فيهما إلا بما نقد المشتري.
          وهذا يدلُّ على أنَّ المراعاة في انتقال الصفقات في الشفعة وانتقاضها بالاستحقاق والعيوب وما نقد البائع في الوجهين جميعًا، وأنَّ الشفعة في ذلك كالاستحقاق، وهذا هو الصواب.
          وأمَّا قول البخاريِّ عن أبي حنيفة: (فَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الدَّارُ رَجَعَ المُشْتَرِي عَلَى البَائِعِ بِمَا دَفَعَ إِلَيْهِ)، فهذا من أبي حنيفة يدلُّ أنَّه قصد الحيلة في الشفعة؛ لأنَّ الأمَّة مجمعةٌ وأبو حنيفة معهم على أنَّ البائع لا يردُّ في الاستحقاق والردِّ بالعيب إلَّا ما قبض. فكذلك الشفيع لا يشفع إلَّا بما نقد المشتري وما قبضه منه البائع لا بما عقد.
          وأمَّا قول أبي حنيفة: (لِأَنَّ البَيْعَ حِينَ اسْتُحِقَّهُ انْتَقَضَ صَرْفُ فِي الدِّينَارِ) فلا يفهم؛ لأنَّ الاستحقاق والردَّ بالعيب يوجب نقض الصفقة كلِّها، فلا معنى لذكره الدينار دون غيره.
          وقال المُهَلَّب: وجه إدخال البخاريِّ قوله صلعم: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) في هذه المسألة، وهو لمَّا كان الجار أحقَّ بالبيع وجب أن يكون أحقَّ أن يرفق به في الثمن حتَّى لا يغبن في شيءٍ، ولا يدخله عروضٌ بأكثر من قيمتها، ألا ترى أنَّ أبا رافعٍ لم يأخذ من سعدٍ ما أعطاه غيره من الثمن ووهبه؛ لحقِّ الجوار الذي أمر الله بمراعاته وحفظه وحضَّ النبيُّ صلعم على ذلك.
          وقوله صلعم: (لاَ دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ وَلاَ غَائِلَةَ) دليلٌ على أنَّه لا احتيال في شيءٍ من بيوع المسلمين من صرف دينارٍ بأكثر من قيمته ولا غيره.]
(1)


[1] ليس في (ص).