شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب احتيال العامل ليهدى له

          [░15▒ باب: احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ
          فيه: أَبُو حُمَيْدٍ: (اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ صلعم رَجُلًا على صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم]
(1): / فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ فَيَأْتيِني فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ إِليَّ، وَقَالَ: وَاللهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الحديث. [خ¦6979]
          قال المُهَلَّب: حيلة العامل ليهدى إليه إنَّما تكون بأن يضع من حقوق المسلمين في سعايته ما يُعوِّضه من أجله الموضوع له، فكأنَّ الحيلة إنَّما هي أن وضع من حقوق المسلمين ليستجزل لنفسه، فاستدلَّ النبيُّ صلعم على أنَّ الهدية لم تكن إلَّا بعوضٍ فقال: (فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنظُرَ أَيُهدَى إِلَيهِ أَمْ لَا). فغلب الظنُّ وأوجب أخذ الهدية وضمَّها إلى أموال المسلمين.
          قال غيره: وهذا الحديث يدلُّ أنَّ ما أهدي إلى العامل في عمالته والأمير في إمارته شكرًا لمعروف صنعه أو تحبُّبًا إليه أنَّه في ذلك كلِّه كأحد المسلمين لا فضل له عليهم فيه؛ لأنَّه بولايته عليهم نال ذلك، فإن استأثر به(2) فهو سحتٌ، والسحت كلُّ ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حقٍّ أو تحقيق باطلٍ وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحقِّ.
          وقد روي عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((هدايا الأمراء غلولٌ)) والغلول معلومٌ أنَّه للموجفين ولم يكن معهم، وعلى هذا التأويل كانت مقاسمة عُمَر بن الخطَّاب لعمَّاله على طريق الاجتهاد لأنَّهم خلطوا ما يجب لهم في عمالتهم بأرباح تجاراتهم وسهمانهم في الفيء، فلمَّا لم يقف عمر على مبلغ ذلك حقيقةً أدَّاه اجتهاده إلى أن يأخذ منهم نصف ذلك.
          وقد روي عن بعض السلف أنَّه قال: ما عدل من تجر في رعيَّته. وقد فعله عمر ☺ أيضًا في المال الذي دفعه أبو موسى الأشعريُّ بالعراق من مال الله إلى ابنيه عبد الله وعبيد الله، أراد عمر أن يأخذ منهم المال وربحه. فقال عثمان: لو جعلته قراضًا. أي خذ منهم نصف الربح ففعل ورأى أنَّ ذلك صوابٌ.
          وقد جاء معاذ بن جبلٍ من اليمن إلى أبي بكر الصدِّيق بأعبدٍ له أصابهم في إمارته على اليمن، فقال له عمر: ادفع الأعبد إلى أبي بكرٍ. فأبى معاذٌ من ذلك، ثمَّ إنَّ معاذًا رأى في المنام كأنَّه واقفٌ على نارٍ يكاد أن يقع فيها وأنَّ عمر أخذ بحجزته فصرفه عنها، فلمَّا أصبح قال لعمر: ما ظنِّي(3) إلَّا أنِّي أعطي الأعبد أبا بكرٍ. فقال له: وكيف ذلك؟ قال: رأيت البارحة في النوم رؤيا وما أظنُّ ما أشرت به عليَّ في الأعبد إلَّا تأويل الرؤيا. فدفعها(4) إلى أبي بكرٍ، فرأى أبو بكرٍ أن يردَّهم عليه فردَّهم عليه فكانوا عند معاذٍ، فاطلع معاذٌ يومًا فرآهم يصلُّون صلاةً حسنةً فأعتقهم.
          واختلف السلف في تأويل قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}[المائدة:42]فروي عن مسروقٍ أنَّه سأل ابن مسعودٍ عن السحت أهو الرشوة في الحكم؟ فقال عبد الله: ذلك الكفر، وقرأ عبد الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:42]ولكن السحت أن يستعينك رجلٌ على مظلمةٍ إلى إمام فتعينه فيهدي لك.
          وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: كان يقال: السحت الرشوة في الحكم. وعن عِكْرِمَة مثله، وذكر إسماعيل بن إسحاق من حديث عبد الله بن عُمَر وثوبان (أنَّ رسول الله صلعم لعن الراشي والمرتشي) وفسَّره الحسن البصريُّ فقال: ليحقَّ باطلًا أو يبطل حقًّا، فأمَّا أن يدفع عن ماله فلا بأس. وهذا خلاف تأويل ابن مسعودٍ.


[1] قوله: ((وينقده دينارًا بما بقي من العشرين ألف..... رَسُولُ اللهِ صلعم)) ليس في (ص).
[2] زاد في (ص): ((دونهم)).
[3] في (ص): ((أظنني)).
[4] في (ص): ((فدفعهم)).