شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت

          ░9▒ باب: إِذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا مَاتَتْ، فَقُضِيَ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْمَيِّتَةِ ثُمَّ وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فَهِيَ لَهُ وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ(1) ثَمَنًا.
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْجَارِيَةُ لِلْغَاصِبِ لأخْذِهِ الْقِيمَةَ، وفي هَذَا احْتِيَالٌ لِمَنِ اشْتَهَى جَارِيَةَ رَجُلٍ لا يَبِيعُهَا، فَغَصَبَهَا وَاعْتَلَّ أَنَّهَا مَاتَتْ حَتَّى يَأْخُذَ رَبُّهَا قِيمَتَهَا فَتَطِيبُ لِلْغَاصِبِ جَارِيَةَ غَيْرِهِ.
          قَالَ النَّبيُّ صلعم(2): (أَمْوَالُكُمْ عَلَيْكُمْ(3) حَرَامٌ، وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ).
          فيه: زَيْنَبُ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ على نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ). [خ¦6967]
          احتجَّ البخاريُّ في هذا الباب على أبي حنيفة ورَدَّ قوله إنَّ الجارية للغاصب إذا وجدها ربُّها، واعتلَّ أبو حنيفة بأنَّه إذا أخذ قيمتها من الغاصب فلا حقَّ له فيها؛ لأنَّه لا يجتمع الشيء وبدله في ملكٍ واحدٍ أبدًا. وهذا خطأٌ من أبي حنيفة، والصحيح ما ذهب إليه البخاريُّ، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأبي ثورٍ، قالوا: إذا وجد الجارية صاحبها فهو مخيَّرٌ إن شاء أخذها ورَدَّ القيمة، وإن شاء تمسَّك بالقيمة وتركها، إلَّا أنَّ مالكًا فرَّق بين أن يجدها ربُّها عند الغاصب أو عند من اشتراها من الغاصب فقال: إن وجدها ربُّها عند مشتريها من الغاصب لم تتغيَّر أنَّه مخيَّرٌ بين أخذها أو قيمتها يوم الغصب أو الثمن الذي باعها به الغاصب.
          قال: وإن وجدها عند الغاصب لم تتغيَّر وهي أحسن ممَّا كانت يوم / غصبها(4) ولم يكن جحدها الغاصب ولا حكم عليه بقيمتها فليس له إلَّا أخذها، ولا يأخذ قيمتها. هذا قوله في «المدوَّنة».
          وقال ابن الماجِشون ومطرِّفٌ: وهو مخيَّرٌ بين أخذها أو أخذ قيمتها إذا كان الغاصب قد غاب عنها. والحجَّة لمن خالف أبا حنيفة بيان النبيِّ صلعم أنَّه لا يحلُّ مال مسلمٍ إلَّا عن طيب نفسٍ منه، وأنَّ حكم الحاكم لا يحلُّ ما حرَّم الله ورسوله؛ لقوله صلعم: (فَلَا يَأْخُذْهُ(5)، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطعَةً مِنَ النَّارِ).
          وأمَّا قول أبي حنيفة: إنَّ القيمة ثمنٌ، فهو غلطٌ؛ لأنَّ القيمة إنَّما وجبت؛ لأنَّ الجارية متلفةٌ لا يقدر عليها، فلمَّا ظهرت وجب له أخذها؛ لأنَّ أخذ القيمة ليس ببيعٍ بايعه به، وإنَّما أخذ القيمة لهلاكها، فإذا زال ذلك وجب الرجوع إلى الأصل الذي كان عليه، وهو تسليم الجارية إلى صاحبها، وقد فرَّق أهل العلم بين القيمة والثمن، فجعلوا القيمة في الشيء المستهلك وفي البيع الفاسد، وجعلوا الثمن في الشيء القائم، والفرق بين البيع الفاسد والغصب أنَّ البائع قد رضي بأخذ الثمن عوضًا من سلعته وأذن للمشتري في التصرُّف فيها، وإنَّما جهل السنَّة في البيع، فإصلاح هذا البيع أن يأخذ قيمة السلعة إن فاتت، والغاصب غصب ما لم يأذن له فيه ربُّه، وما له فيه رغبةٌ؛ فلا يحلُّ تملُّكه للغاصب بوجهٍ من الوجوه إلَّا أن يرضى المغصوب منه بأخذ قيمته.
          وقد ناقض(6) أبو حنيفة في هذه المسألة فقال: إن كان الغاصب حين ادَّعى ربُّ الجارية قيمتها كذا وكذا جحد ما قال، وقال قيمتها كذا وكذا وحلف عليه، ثمَّ قدَّر عليه الجارية كان ربُّها بالخيار إن شاء سلَّم الجارية بالقيمة وإن شاء أخذ الجارية وردَّ القيمة؛ لأنَّه لم يعط القيمة التي ادَّعاها(7) ربُّها، وهذا تركٌ منه لقوله. ولو كانت القيمة ثمنًا ما كان لربِّ الجارية الخيار فيما معناه البيع؛ لأنَّ الرجل لو باع ما يساوي خمسين دينارًا بعشرة دنانير كان بيعه لازمًا ولم يجعل له رجوع ولا خيار.


[1] قوله: ((وَلا تَكُونُ الْقِيمَةُ)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((قال ◙)).
[3] في (ص): ((بينكم)).
[4] في (ص): ((الغصب)).
[5] في (ص): ((يأخذها)).
[6] في (ص): ((تناقض)).
[7] في (ص): ((ادعى بها)).