شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب في الزكاة وأن لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق

          ░3▒ باب: في الزَّكَاةِ
          فيه: أَنَسٌ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الزَّكَاةِ التي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلعم وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. [خ¦6955]
          وفيه: طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلى النَّبيِّ صلعم ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: / يَا رَسُولَ اللهِ أَخبِرنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ؟ قَالَ: الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، فَقَالَ: أَخبِرنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فقَالَ(1): شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا، قَالَ: أَخبِرنِي بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم بِشَرَائِعَ الإسْلامِ، قَالَ: والذي أَكْرَمَكَ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم(2): أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أدخلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ).
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: في عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ. [خ¦6956]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، قَالَ وَاللهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ فَيُلْقِمَهَا فَاهُ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: إِذَا مَا رَبُّ النَّعَمِ لَمْ يُعْطِ حَقَّهَا تُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَخْبِطُ وَجْهَهُ بِأَخْفَافِهَا).
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ في رَجُلٍ لَهُ إِبِلٌ، فَخَافَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، فَبَاعَهَا بِإِبِلٍ مِثْلِهَا أَوْ بِغَنَمٍ أَوْ بِبَقَرٍ أَوْ بِدَرَاهِمَ فِرَارًا مِنَ الصَّدَقَةِ بِيَوْمٍ احْتِيَالًا، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنْ زَكَّى إِبِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ بِيَوْمٍ أَوْ بِسِنَّةٍ جَازَتْ عَنْهُ. [خ¦6957] [خ¦6958]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبيَّ صلعم في نَذْرٍ كَانَ على أُمِّهِ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ(3) رَسُولُ اللهِ صلعم: اقْضِهِ عَنْهَا). [خ¦6959]
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِذَا بَلَغَتِ الإبِلُ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالًا لإسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ(4) فَلا شَيْءَ عليه في مَالِهِ.
          أجمع العلماء أنَّ للرجل قبل حلول الحول التصرُّف في ماله بالبيع والهبة والذبح إذا لم ينو الفرار من الصدقة، واجمعوا أنَّه إذا حال(5) الحول وأطلَّ الساعي أنَّه لا يحلَّل التحيُّل والنقصان في أن يفرِّق بين مجتمعٍ أو يجمع بين مفترقٍ.
          وقال مالكٌ: إذا فوَّت من ماله شيئًا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهرٍ أو نحوه لزمته الزكاة عند الحول، أخذ بقوله(6) صلعم: (خَشيَةَ الصَّدَقَةِ) وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفويته الفرار من الزكاة قبل الحول بيومٍ لا تضرُّه النيَّة؛ لأنَّ الزكاة لا تلزمه إلَّا بتمام الحول، ولا يتوجَّه إليه معنى قوله صلعم: (خَشيَةَ الصَّدَقَةِ) إلَّا حينئذٍ.
          قال المُهَلَّب: وإنَّما قصد البخاريُّ في هذا الباب أن يعرِّفك أنَّ كلَّ حيلةٍ يتحيَّل بها أحدٌ في إسقاط الزكاة، فإنَّ إثم ذلك عليه؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لمَّا منع من جمع الغنم أو تفريقها خشية الصدقة؛ فهم منه هذا المعنى، وفهم من قوله: (أَفلَحَ إِنْ صَدَقَ) أنَّه من رام أن ينقص شيئًا من فرائض الله بحيلةٍ يحتالها أنَّه لا يفلح ولا يقوم بذلك عذره(7) عند الله ╡، فما أجاز الفقهاء من تصرُّف صاحب المال في ماله قرب حلول الحول، فلم يريدوا بذلك الهروب من الزكاة، ومن نوى ذلك فالإثم عنه غير ساقطٍ والله حسيبه، وهو كمن فرَّ عن صيام رمضان قبل رؤية الهلال بيومٍ واستعمل سفرًا لا يحتاج إليه رغبةً عن فرض الله ╡ الذي كتبه على عباده المؤمنين، فالوعيد إليه متوجِّه، ألا ترى عقوبة من منع الزكاة يوم القيامة بأيِّ وجهٍ منعها كيف تطؤه الإبل ويمثل له ماله شجاعًا أقرع(8)؟ وهذا يدلُّ أنَّ الفرار من الزكاة لا يحلُّ وهو مطالبٌ بذلك في الآخرة.
          وحديث ابن عبَّاسٍ في النذر حجَّةٌ أيضًا في ذلك(9)؛ لأنَّه إذ أمر(10) النبيُّ صلعم سعدًا(11) أن يقضي النذر عن أمِّه حين فاتها القضاء دلَّ ذلك أنَّ الفرائض المهروب عنها أوكد من النذر وألزم، والله الموفق.
          قال غيره: وأمَّا إذا بيعت الغنم بغنمٍ، فإنَّ مالكًا وأكثر العلماء يقولون: إنَّ الثانية على حول الأولى؛ لأنَّ الجنس واحدٌ والنصاب واحدٌ والمأخوذ واحدٌ. وقال الشافعيُّ في أحد قوليه: يستأنف بالثانية حولًا. وليس بشيءٍ.
          وأمَّا إن باع غنمًا ببقرٍ أو بإبلٍ، فأكثر العلماء يقولون: يستأنف بما يأخذ حولًا كأنَّه قد باع دنانير بدراهم؛ لأنَّ النصاب في البقر والإبل مخالفٌ / للغنم، وكذلك المأخوذ. ومن الناس من يقول: إذا ملك الماشية ستَّة أشهرٍ، ثمَّ باعها بدراهم زكَّى الدراهم لتمام ستَّة أشهرٍ من يوم باعها. هذا قول أحمد بن حنبلٍ وأهل الظاهر.
          وما ألزمه من التناقض في قوله بإجازة تقديم الزكاة قبل الحول بسنةٍ فليس بتناقضٍ؛ لأنَّه لا يوجب الزكاة إلَّا بتمام الحول، ويجعل من قدَّمها كمن قدَّم دينًا مؤجَّلًا قبل أن(12) يجب عليه. وإن تمَّ الحول وليس بيده نصابٌ من تلك الماشية رجع على الإمام يؤدِّيها إليه من الصدقة، كما أدَّى رسول الله صلعم الجمل الرباعي الخيار إلى من هذه حاله.


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((فقال ◙)).
[3] في (ص): ((تفيه قال)).
[4] في (ص): ((فماتت)).
[5] في (ص): ((حل)).
[6] في (ص): ((الحول لقوله)).
[7] قوله: ((عذره)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((ويمثل له شجاع أقرع)).
[9] في (ص): ((في ذلك أيضا)).
[10] في (ص): ((أمره)).
[11] قوله: ((سعدا)) ليس في (ص).
[12] قوله: ((أن)) زيادة من (ص).