شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب متى يحل المعتمر

          ░11▒ باب: مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ؟
          وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ: (أَمَرَ النَّبيُّ صلعم أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، وَيَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا).
          فيه: ابْنُ أبي أَوْفَى: (اعْتَمَرَ النَّبيُّ صلعم وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، طَافَ فَطُفْنَا مَعَهُ، وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لي: أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لا، وَقَالَ: بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ في الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ). [خ¦1791] [خ¦1792]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (سُئلَ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ في عُمْرتِهِ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ / فَقَالَ: قَدِمَ الرَّسُولُ صلعم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقَالَ جَابِر: لا يَقْرَبْهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ). [خ¦1793] [خ¦1794]
          وفيه: أَبُو مُوسَى قَالَ: (قَدِمْتُ على النَّبيِّ صلعم وَهُوَ مُنِيخٌ، بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ؟ قَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: لَبَّيْتُ بِإِهْلالٍ كَإِهْلالِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: أَحْسَنْتَ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَحِلَّ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ، فَفَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ حَتَّى كَانَ في خِلافَةِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللهِ فَإِنَّهُ يَأْمُر بِالتَّمَامِ، وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ رسُولِ الله صلعم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ). [خ¦1795]
          وفيه: أَسْمَاءَ قَالَتْ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ: صلعم نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ، قَلِيلٌ ظَهْرُنَا، قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا، فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا، ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنَ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ. [خ¦1796]
          اتَّفق أئمَّة الفتوى على أنَّ المعتمر يحلُّ من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصَّفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصَّر، على ما جاء في هذا الحديث، ولا أعلم في ذلك خلافًا، إلَّا شذوذًا روي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: العمرة الطَّواف. وتبعه عليه إسحاق بن راهويه، والحجَّة في السُّنَّة لا في خلافها.
          واحتجَّ الطَّبريُّ بحديث أبي موسى على من زعم أنَّ المعتمر إذا كمل عمرته ثمَّ جامع قبل أن يحلق أنَّه مفسد لعمرته، قال: ألا ترى قوله ◙ لأبي موسى: (طُف بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمروةَ، وقصِّر مِنْ شعرِكَ واحلق ثمَّ أحلَّ) فبيَّن بذلك أنَّ التَّقصير والحلق ليسا من النُّسك، وإنَّما هما من معاني الإحلال، كما لبس الثِّياب والطِّيب بعد طواف المعتمر بالبيت وسعيه بين الصَّفا والمروة من معاني إحلاله، وكذلك إحلال الحاجِّ من إحرامه بعد رميه جمرة العقبة، لا من نسكه، فبيَّن فساد قول من زعم أنَّ من جامع من المعتمرين قبل التَّقصير من شعره أو الحلق، ومن بعد طوافه بالبيت وبين الصَّفا والمروة أنَّه مفسد عمرته، وهو قول الشَّافعيِّ، قال ابن المنذر: ولا أحفظ ذلك عن غيره. وقال مالك والثَّوريُّ والكوفيُّون: عليه الهدي. وقال عطاء: يستغفر الله ولا شيء عليه.
          قال الطَّبريُّ: وفي حديث أبي موسى بيان فساد قول من قال: إنَّ المعتمر إن خرج من الحرم قبل أن يقصِّر من شعره أو يحلق أنَّ عليه دمًا، وإن كان قد طاف بالبيت وبين الصَّفا والمروة قبل خروجه منه، وفيه أيضًا أن الرَّسول صلعم إنَّما أذن لأبي موسى بالإحلال من عمرته بعد الطَّواف بالبيت والسَّعي بين الصَّفا والمروة، فبان بذلك أنَّ من حلَّ منهما قبل ذلك فقد أخطأ وخالف سنَّته ◙، واتَّضح به فساد قول من زعم أنَّ المعتمر إذا دخل الحرم فقد حلَّ من إحرامه، وله أن يلبس ويتطيَّب ويعمل ما يعمل الحلال، وهو قول ابن عمر وابن المسيِّب وعروة والحسن، وصح أنَّه مَنْ حلَّ مِنْ شيءٍ كان عليه حرامًا قبل ذلك فعليه الجزاء والفدية.
          واختلف العلماء إذا وطئ المعتمر قبل طوافه بالبيت وقبل أن يسعى بين الصَّفا والمروة، فقال مالك والشَّافعيُّ وأحمد وأبو ثور: عليه الهدي وعمرة أخرى مكانها، ويتمُّ التي أفسد. ووافقهم أبو حنيفة إذا جامع بعد طواف ثلاثة أشواط، وقال: إذا جامع بعد أربعة أشواط بالبيت أنَّه يقضي ما بقي من عمرته، وعليه دم، ولا شيء عليه.
          وهذا تحكُّم لا دليل عليه إلَّا الدَّعوى، وحجَّة مالك ومن وافقه حديث ابن أبي أوفى أنَّ النَّبيَّ صلعم اعتمر مع أصحابه ولم يحلُّوا حتَّى طافوا وسعوا بين الصَّفا والمروة، ولذلك أمر النَّبيُّ صلعم أيضًا أبا موسى الأشعريَّ قال له: (طف بالبيتِ وبينَ الصَّفا والمروةِ وأَحِلَّ) فوجب الاقتداء بسنَّته واتِّباع أمره، وقال: ((خذوا عنِّي مناسككم)). /
          وقد فهم الصَّحابة الذين تلقَّوا عنه السُّنَّة قولًا وعملًا هذا المعنى، فقال جابر وابن عمر: لا يقرب امرأته حتَّى يطوف بين الصَّفا والمروة. واحتجَّ ابن عمر في ذلك بفعل النَّبيِّ صلعم وإن كان ◙ غير معتمر، فمعنى ذلك أنَّه لم يُدخل بين الطَّواف والسَّعي عملًا، ولا أباحه للمعتمرين الذين أمرهم بالإحلال حتَّى وصلوا سعيهم بطوافهم، وكذلك حلُّوا بمسيس النِّساء والطِّيب وغير ذلك والله الموفق.
          قال المُهَلَّب: قولها: ((فاعتمرت أنا واختي عائشة)). بالإحرام بعمرة حين أمرهم ◙ أن يجعلوا إحرامهم بالحجِّ عَمْرة، فثبتت أسماء على عمرتها، وحاضت عائشة فلم تطف بالبيت، وأمرها النَّبيُّ صلعم أن ترفض ذكر العمرة، وأن تكون على ما كانت أبدأت الإحرام به من ذي الحليفة من الحجِّ، وتركت العمرة التي كانت أحلَّت بها من سرف، فأخبرت أسماء عن نفسها وعن الزُّبير وفلانٍ وفلانٍ الذين كانوا أحلُّوا بمسح البيت بعمرةٍ، ولم يدلَّ ذلك أنَّ عائشة مسحت البيت معهم؛ لثبوت أنَّها حاضت فمُنِعت العمرة، وقول الرَّسول صلعم لها: ((كوني على حجِّك عسى الله أن يرزقكيها غير ألَّا تطوفي بالبيت)) ومثله قول ابن عبَّاس في حرمة الفسخ: طفنا بالبيت وأتينا النِّساء. لأنَّه كان في حجَّة الوداع صغيرًا قد ناهز الحلم، وقد قال: توفِّي رسول الله صلعم وأنا ابن عشر سنين. فكان في حجَّة الوداع ابن ثمان أو نحوها ممَّن لا يأتي النِّساء، وكذلك قالت عائشة في حديث الأسود: فلمَّا قدمنا تطوَّفنا بالبيت. وهي لم تطف بالبيت حتَّى طهرت ورجعت من عرفة؛ لأنَّها قالت فيه: ونساؤه لم يسقن الهدي فأحللن، فحضت فلم أطف بالبيت. بعد أن قالت: تطوَّفنا. وعلى هذا التَّأويل يخرج قول من قال: ((تمتَّع رسولُ صلعم وتمتَّعنا معه)) يعني: تمتَّع بأن أمر بذلك _والله أعلم_ وقد تقدَّم معنى قولها: ((فلمَّا مسحنا البيت أحللنا)) يريد بعد السَّعي بين الصَّفا والمروة، وعلى ذلك تأوَّله الفقهاء.