عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الشرب من فم السقاء
  
              

          ░24▒ (ص) باب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ ما ورد مِنَ النهي في الشرب مِن فمِ السِّقاء، ويجوز تشديد الميم، ويروى: <مِن في السقاء>.
          قيل: لم يكتفِ البُخَاريُّ بالترجمة التي قبلها؛ لئلَّا يظن أنَّ النهيَ خاصٌّ بصورة الاختناث، وأشار بأنَّ النهي يعمُّ ما يمكن اختناثه وما لا يمكن؛ كالفخَّار مثلًا.
          قُلْت: رُويَ أحاديث تدلُّ على جواز الشرب مِن فم السقاء:
          منها: ما رواه التِّرْمِذيُّ مِن حديث عبد الرَّحْمَن بن أبي عَمْرة عن جدَّته كَبْشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلعم ، فشرب مِن في قربة معلَّقة، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
          ومنها: حديث أنس بن مالك، رواه التِّرْمِذيُّ في «الشمائل» وقد ذكرناه قبل هذا الباب.
          ومنها: حديث عبد الله بن أُنيس عَن أبيه قال: رأيت النَّبِيَّ صلعم قام إلى قِربة مُعلَّقة فخنثها ثُمَّ شرب مِن فمها، رواه التِّرْمِذيُّ وأبو داود.
          وقد صحَّ عَن جماعة مِنَ الصحابة والتَّابِعينَ فعل ذلك؛ فروى ابن أبي شَيْبَةَ في «المصنَّف» عن ابن عَبَّاسٍ ☻ أنَّهُ كان لا يرى بأسًا بالشرب مِن في [الإداوة، وعَن سعيد بن جبير قال: رأيتُ ابن عمر ☻ يشرب مِن في الإداوة، وعَن نافع: أنَّ ابن عمر كان يشرب مِن في] السقاء، وعن عَبَّاد بن منصور قال: رأيت سالم بن عبد الله بن عُمَر يشرب مِن في الإداوة.
          فَإِنْ قُلْتَ: كيف يجمع بين هذه الأحاديث التي تدلُّ على الجواز وبين حديثي الباب اللذين يدلَّان على المنع؟
          قُلْت: قال شيخُنا ☼: لو فرَّق بين ما يكون لعذرٍ _كأن تكون القِربة معلَّقةً، ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناءً متيسَّرًا يتمكَّن مِنَ التناول بكفِّه؛ فلا كراهة حينئذٍ، وعلى هذا تُحمَل هذه الأحاديث المذكورة_ وبين ما يَكونُ لغير عذرٍ فتُحمَل عليه أحاديث النهي، قيل: لم يرِدْ حديثٌ مِنَ الأحاديث التي تدلُّ على الجواز إلَّا بفعله صلعم ، وأحاديثُ النهي كلُّها مِن قوله، فهي أرجَحُ، والله أعلم.