عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

وقول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس}
  
              

          ░1▒ (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة:90].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفٌ على (الأشربة) المجرورة بالإضافة، والآية بتمامها مذكورةٌ في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذرٍّ إلى قوله: <{رِجْسٌ} الآية>، وأَوَّل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية، وذكر البُخَاريُّ هذه الآيةَ تمهيدًا لما يذكره مِنَ الأحاديث التي وردت في الخمر، وقد ذكرها في (سورة المائدة)، وسبب نزولها ما قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا خلف بن الوليد: حَدَّثَنَا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي مَيْسَرة، عن عُمَر بن الخَطَّاب ☺ أنَّهُ قال: لمَّا نزل تحريم الخمر قال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآية التي في (البقرة) : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}[البقرة:219] فدُعِيَ عمرُ، فقُرِئَت عليه فقال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في (النساء) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء:43] فكان منادي رسول الله صلعم إذا قام إلى الصلاة ينادي ألَّا يقرب الصلاة سكران، فدُعِي عمرُ / فقُرِئَت عليه، فقال: اللَّهمَّ بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في (المائدة) فدُعِي عمرُ فقُرِئَت عليه فلمَّا بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}؟[المائدة:91] قال عمر: انتهينا انتهينا، وهكذا رواه أبو داود والتِّرْمِذيُّ والنَّسائيُّ مِن طريقٍ عن إسرائيل عن أبي إسحاق، وصحَّح هذا الحديثَ التِّرْمِذيُّ وعليُّ بن المدينيِّ.
          قوله: ({الْخَمْرُ}) اختَلَف أهلُ اللُّغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظٍ قريبةِ المعاني؛ فقيل: سُمِّيت خمرًا لأنَّها تُخمِّر العقلَ؛ أي: تغطِّيه وتستره، ومنه خمار المرأة؛ لأنَّه يغطِّي رأسها، وقيل: مشتقَّة مِنَ المخامرة؛ وهي المخالطة؛ لأنَّها تخالط العقل، وقيل: سُمِّيت خمرًا [لأنَّها تُرِكت حَتَّى أدركت، يقال: خمر العجين؛ أي: بلغ إدراكه، وقيل: سُمِّيت خمرًا] لتغطيتها الدماغ، وقال أبو حنيفة: هي مؤنَّثةٌ، وقد ذكر ذلك الفَرَّاءُ، وأنشد قول الأعشى:
وَكَأَنَّ الْخَمْرَ الْعَتِيقَ مِنَ الْإِسْـ                     فَنْطِ مَمْزُوجَة بِمَاءٍ زُلَالٍ
          وذكَّرها حيث قال: (العتيق) لإرادة الشراب، ولها أسماءٌ كثيرةٌ، وذكر صاحب «التلويح» ما يُناهز تسعين اسمًا، وذكر ابن المعتزِّ مئةً وعشرين اسمًا، وذكر ابن دِحْية مئةً وتسعين اسمًا.
          قوله: ({وَالْمَيْسِرُ}) القِمار، وعن عطاءٍ ومجاهدٍ وطاووس: كلُّ شيءٍ مِنَ القمار فهو الميسِر، حَتَّى لعب الصبيان بالجوز، وقال راشد بن سعيدٍ وحمزة بن حبيبٍ: حَتَّى الكعاب والجوز والبيض التي يلعب بها الصبيان، وقال الزَّمَخْشَريُّ: «المَيسِر» القِمار، مصدرٌ مِن «يسر» كـ«الموعِد» و«المرجِع» مِن فعلِهما، يقال: يسرتُه؛ إذا قَمَرتَه، واشتقاقه مِنَ اليُسر؛ لأنَّه أخذ مال الرجل بيسرٍ وسهولةٍ مِن غير تعبٍ ولا كدٍّ، أو مِنَ اليسار؛ لأنَّه يسلب يساره.
          قوله: ({وَالْأَنْصَابُ}) جمع (نُصُْب) بِضَمِّ الصاد وسكونها، وهو حجرٌ كانوا ينصبونه في الجاهليَّة، ويتَّخذونه صنمًا فيعبدونه، وقيل: كانوا ينصبونه ويذبحون عليه، فَتَحَمَّر بالدم.
          قوله: ({وَالْأَزْلَامُ}) جمع (زَلمٍ) وقد تُفْتَح الزاي، وهي عبارة عن قداحٍ ثلاثةٍ؛ على أحدها: أمرني ربِّي، وعلى الآخر: نهاني ربِّي، والثالث عطل ليس عليه شيءٌ، فإذا أجالها السهم الآمر فعله، وإذا أجال الناهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد الاستِقسام، وقيل: ونعت الخمر بأنَّها رِجْسٌ؛ أي: نجسةٌ قذرةٌ، ولا عين توصَف بذلك، فإنَّها مُحرَّمةٌ، يدلُّ على ذلك الميتة والدم، و(الرجس) قد ورد في كتاب الله ╡ والمراد به الكفر، قال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}[التوبة:125] يعني: الكفر، ولا يصحُّ أن يكون الرجس المذكور في آية الخمر يراد به الكفر؛ لأنَّ الأعيان لا يصحُّ أن تكون إيمانًا ولا كفرًا، ولأنَّ الخمر لو كانت كفرًا لوجب أن يكون العصير إيمانًا؛ لأنَّ الكفر والإيمان طريقهما الاعتقاد والقول، وإِنَّما أطلق عليها الرجس لكونها أقوى في التحريم، وأوكد عند العلماء، وقد مرَّ في (التفسير) بأبسطَ مِن هذا.