عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب شراب الحلواء والعسل
  
              

          ░15▒ (ص) بَابُ شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان شراب الحلواء، وهو بالمدِّ عند المُسْتَمْلِي، وعند غيره بالقصر، وقيل: هما لغتان، وقال الكَرْمَانِيُّ: القصر أظهر؛ لأنَّه لا يُشرَب غالبًا، وقال ابن التين عن الداوديِّ: هو النقيع الحلو، وعليه يدلُّ تبويب البُخَاريِّ بشراب الحلوى، وقال الخَطَّابيُّ: الحلواء ما يُعقَد مِنَ العسل ونحوه، ويقال: العرب لا تَعرف هذه الحلواء المعقودة التي هي الآن معهودةٌ، فتعيَّن أنَّ المقصود ما يمكن شربه؛ وهو الماء المنبوذ فيه التمر ونحوه، وكذلك العسل.
          فَإِنْ قُلْتَ: قوله: (الْحَلْوَى) يشمل العسل وغيره مِن كلِّ حلوٍ، فما فائدة ذكر العسل بالخصوصية؟
          قُلْت: هذا مِن قبيل التخصيص بعد التعميم؛ كما في قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرَّحْمَن:68] ويحتمل أن يكون ذكره للتنبيه على جواز شرب العسل؛ إذ قد يُتخيَّل أنَّ شربه مِنَ السرف.
          (ص) وَقَالَ الزُّهْريُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ؛ لِأنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}[المائدة:5].
          (ش) قيل: ترجم البُخَاريُّ على شيءٍ ثُمَّ أعقبه بضدِّه.
          قُلْت: / أراد هذا القائل أنَّ البُخَاريَّ قال: (باب شراب الحلواء والعسل) ثُمَّ قال عن الزُّهْريِّ: (لا يحلُّ شرب بول الناس...) إلى آخره، وبينهما تضادٌّ، أقول: مقصود البُخَاريِّ مِن إيراد قول الزُّهْريِّ هو قوله: (قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}) والحلواء والعسل وكلُّ شيءٍ يُطلق عليه أنَّهُ حلوٌ مِنَ الطَّيِّبات، وهذا في معرض التحليل للترجمة، غاية ما في الباب ذكر أوَّلًا عن الزُّهْريِّ مسألة شرب البول تنبيهًا على أنَّهُ ليس مِنَ الطَّيِّبات، وتعليق الزُّهْريِّ هذا أخرجه عبد الرَّزَّاق عن معمرٍ عنه.
          قوله: (لِشِدَّةٍ) أي: لضرورةٍ، وهذا خلاف ما عليه الجمهور، وتعليله بقوله: (لِأَنَّهُ رِجْسٌ) _أي: لأنَّ البول نجسٌ_ غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ الميتة والدم ولحم الخنزير رجسٌ أيضًا مع أنَّهُ يجوز التناول منها عند الضرورة، وقالت الشَّافِعِيَّة: يجوز التداوي بالبول ونحوه مِنَ النجاسات خلا الخمر والمُسْكِرات، وقال مالكٌ: لا يشربها؛ لأنَّها لا تزيده إلَّا عطشًا وجوعًا، وأجاز أبو حنيفة أن يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه.
          (ص) وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ ☺ في السَّكَرِ: إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفاءَكُمْ فِيما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
          (ش) الذي قيل في إيراد أثر الزُّهْريِّ قيل هنا أيضًا، والجواب عن جهة الزُّهْريِّ قد مرَّ، وأَمَّا الجواب عن إيراده أثر ابن مسعودٍ هنا؛ فهو أنَّهُ أشار بذكر هذا إلى قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69] فدلَّ على ضدِّه أنَّ الله لم يجعل الشفاء فيما حرَّمه، وأَمَّا تعيين السَّكَر هنا مِن دون سائر المحرَّمات مِن هذا الجنس؛ فهو أنَّ ابن مسعودٍ سُئِل عن ذلك على التعيين، فلذلك قال: (إنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفاءَكُمْ فِيما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وأوضحَ ذلك عليُّ بن حَرْبٍ الطائيُّ عن سفيان بن عُيَيْنَةَ، عن منصورٍ، عن أبي وائلٍ قال: اشتكى رجلٌ منَّا _يقال له: خُثَيم بن العدَّاء_ داءً ببطنه _يقال له: الصفر_ فنُعِت له السَّكَر، فأرسل إلى ابن مسعودٍ يسأله... فذكره، وأخرجه ابن أبي شَيْبَةَ عن جريرٍ، عن منصورٍ، وسنده صحيحٌ على شرط الشيخين، فهذا وجه تعيين السَّكَر في هذا الأثر.
          و(السَّكَر) بفتحتين: الخمر، فيما نقله ابن التين عن بعضهم، وقيل: هو نبيذ التمر إذا اشتدَّ، وقيل: المراد مِنَ السَّكَر: المُسْكِر، وقال صاحب «الهداية»: ونقيع التمر وهو السَّكَر، ونقيع الزبيب إذا اشتدَّ وغلا، عدَّ هذين القسمين مِن أنواع الأشربة المحرَّمة الأربعة، وعدَّ قبلهما اثنين آخرَين؛ وهما الخمر والطلاء، وفي «المحيط»: والمتَّخذ مِنَ التمر ثلاثةٌ: السَّكَر والفضيخ والنَّبِيذ، وقال أبو الحسن: إن كان البُخَاريُّ أراد سكر الأشربة فيمكن أن يكون سقط مِنَ الكلام شيءٌ، وهو ذكر السؤال عن ذلك، وإن كان أراد السَّكْر [بفتح السين وسكون الكاف؛ فهو الذي يُسَدُّ به النهر، فيكون السؤال مِن ابن مسعود عند السَّكْر] عنِ التداوي بشيءٍ مِنَ المحرَّمات، فقال: إنَّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم، والله أعلم.