عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الباذق
  
              

          ░10▒ (ص) بَابُ الْبَاذَقِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم البَاذَق؛ بالباء المُوَحَّدة وفتح الذال المُعْجَمة، ونُقِل عن القابسيِّ أنَّهُ حدَّث به بكسر الذال، وسُئِل عن فتحها فقال: ما وقفنا عليه، وقال ابن التين: هو اسمٌ فارسيٌّ عرَّبته العرب، وقال الجواليقيُّ: «باذه» أي: باذَق، وهو الخمر المطبوخ، وقال الداوديُّ: هو يشبه الفقاع إلَّا أنَّهُ ربَّما يشتدُّ، وقال ابن قُرْقُولَ: الباذَق المطبوخ مِن عصير العنب إذا أَسْكَر أو إذا طُبِخَ بعد أن اشتدَّ، وقال ابن سِيدَه: إنَّهُ مِن أسماء الخمر، ويقال: الباذَق: المثلَّث؛ وهو الذي بالطبخ ذهب ثُلُثَاه، وقال القزَّاز: هو ضربٌ مِنَ الأشربة، ويقال: هو الطلاء المطبوخ مِن عصير العنب، كان أَوَّل مَن صنعه وسمَّاه بنو أميَّة؛ لينقلوه عن اسم الخمر، وكان مُسْكِرًا، والاسم لا يُنْقَل عن معناه الموجود فيه، وقالت الحَنَفيَّة: العصير المسمَّى بالطلاء إذا طُبِخَ فذهب أقلُّ مِن ثلثيه يحرم شربه، وقيل: الطلاء هو الذي يذهب ثلثه، وإن ذهب نصفه فهو المُنصَّف، وإن طُبِخ أدنى طبخةٍ فهو الباذَق، والكلُّ حرامٌ إذا غلا واشتدَّ وقذف بالزَّبَد، وكذا يُحرَم نقيع الرُّطَب _وهو المسمَّى بالسَّكَر_ إذا غلا واشتدَّ وقذف بالزبد، وكذا نقيع الزبيب إذا غلا واشتدَّ وقذف بالزَّبَد، ولكنَّ حرمةَ هذه الأشياء دون حرمة الخمر حَتَّى لا يكفر مُستَحلُّها، ولا يجبُّ الحدُّ بشربها ما لم يُسكِر، ونجاستها خفيفةٌ، وفي روايةٍ: غليظةٌ، ويجوز بيعها عند أبي حنيفة، ويَضمن قيمتَها بالإتلاف، وقال: لا يحرم بيعها ولا يضمنها بالإتلاف.
          (ص) وَمَنْ نَهَى كُلَّ مُسْكِرٍ مِنَ الأَشْرِبَةِ.
          (ش) أي: وفي بيان مَن نهى كلَّ مُسْكِرٍ مِنَ الأشربة بأنواعها؛ لقوله صلعم : «كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ»، ويدخل فيه سائرُ ما يُتَّخذ مِنَ الحبوب ومِنَ النبات؛ كالحشيش وجوزِ الطِّيب ولبن الخَشْخاش إذا أَسكر.
          (ص) وَرَأَى عُمَرُ وأبُو عُبَيْدَةَ ومُعاذٌ شُرْبَ الطِّلَاءِ عَلى الثُّلُثِ.
          (ش) أي: رأى عُمَر بن الخَطَّاب وأبو عُبَيْدَةَ ابْن الجَرَّاحِ ومعاذ بن جبلٍ ♥ جواز شرب الطلاء إذا طُبخ فصار على الثلث، ونقص منه الثلثان، / أَمَّا أثر عمر ☺ فأخرجه مالكٌ في «الموطَّأ» مِن طريق محمود بن لَبِيدٍ الأنصاريِّ: أنَّ عُمَر بن الخَطَّاب حين قدم الشام شكى إليه أهلُ الشام وباءَ الأرض وثقلَها، وقالوا: لا يصلحنا إلَّا هذا الشراب، فقال: اشربوا العسلَ، قالوا: لا يصلحنا، فقال رجلٌ مِن أهل الأرض: هل لك أن نجعل لك مِن هذا الشراب شيئًا لا يُسكِر؟ فقال: نعم، فطبخوه حَتَّى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث، وأتَوا به عمر فأَدخل فيه إصبعَه، ثُمَّ رفع يده فتبعها يتمطَّط، فقال: هذا الطلاء مثل طلاء الإبل، فأمرهم عمر أن يشربوه، وقال عمر ☺ : لا أحلُّ لهم شيئًا حرَّمته عليهم، وأَمَّا أثر أبي عبيدة ومعاذٍ فأخرجه أبو مسلمٍ الكجِّيُّ وسعيد بن منصورٍ وابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق قتادة عن أنسٍ: أنَّ أبا عبيدة ومعاذ بن جبلٍ وأبا طلحة كانوا يشربون مِنَ الطلاء ما طُبِخَ على الثلث وذهب ثلثاه.
          (ص) وشَرِبَ البرَاءُ وأبُو جُحَيْفَةَ عَلى النِّصْفِ.
          (ش) أي: شرب البراء بن عازبٍ وأبو جُحَيفة وهب بن عبد الله على النصف؛ أي: إذا طُبِخ فصار على النصف، وأثر البراء أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ [مِن رواية عَدِيِّ بن ثابتٍ عنه: أنَّهُ كان يشرب الطلاء على النصف، وأثر أبي جُحَيفة أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ] أيضًا مِن طريق حصين بن عبد الرَّحْمَن قال: رأيت أبا جُحَيفة... فذكر مثله.
          (ص) وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ العَصِيرَ ما دامَ طَرِيًّا.
          (ش) هذا وصله النَّسائيُّ مِن طريق أبي ثابتٍ الثعلبيِّ قال: كنت عند ابن عَبَّاسٍ فجاءه رجلٌ يسأله عن العصير، فقال: اشربه ما كان طريًّا، فقال: إنِّي طبخت شرابًا، وفي نفسي منه شيءٌ، قال: أكنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال: لا، قال: فإنَّ النار لا تحلُّ شيئًا قد حُرِّم.
          (ص) وَقَالَ عُمَرُ ☺ : وجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ الله رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.
          (ش) أي: قال عُمَر بن الخَطَّاب ☺ ... إلى آخره.
          و(عُبَيْدُ اللهِ) بالتصغير، هو ابن عمر ☺ ، ووصله مالكٌ عن الزُّهْريِّ، عن السائب بن يزيد أنَّهُ أخبره: أنَّ عُمَر بن الخَطَّاب ☺ خرج عليهم: إنِّي وجدت مِن فلانٍ ريحَ شرابٍ، فزعم أنَّهُ شَرِبَ الطلاء، وإنِّي سائلٌ عمَّا شرب، فإن كان يُسْكِر جلدْتُهُ، فجلده عمرُ الحدَّ تامًّا، وسنده صحيحٌ، وفيه حذفٌ؛ تقديره: فسأل عنه فوجده يُسكِر فجلده، وأخرجه سعيد بن منصورٍ عن ابن عُيَينة عن الزُّهْريِّ: سمع السائب بن يزيد يقول: قام عمر ☺ على المنبر، فقال: ذُكِر لي أنَّ عُبَيد الله بن عُمَر وأصحابَه شربوا شرابًا، وأنا سائلٌ عنه، فإن كان يُسكِر حددتهم، قال ابن عُيَينة: فأخبرني معمر عن الزُّهْريِّ، عن السائب قال: رأيت عمر يجلدهم.
          واختُلِف في جواز الحدِّ بمجرَّد وجدان الريح، والأصحُّ: لا، واختُلِف في السَّكٍران؛ فقيل: مَنِ اختلط كلامه المنظوم وانكشف سرُّه المكتوم، وقيل: مَن لا يعرف السماء مِنَ الأرض ولا يعرف الطول مِنَ العرض.