عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: يا أيها الناس إن رسول الله قد نهاكم عن صيام
  
              

          5571-5572-5573- (ص) حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْريِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ: أنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأَضْحَى مَعَ عُمَرَ بن الخَطَّابِ ☺ ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَأَمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ نُسُكَكُمْ.
          قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ☺ فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ.
          قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ☺ ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لَحْمَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ.
          (ش) مطابقته للترجمة في أثر عليٍّ ☺ في آخر الحديث؛ وذلك لأنَّ الترجمة قوله: (بَابُ مَا يُؤكَلُ مِن لُحُومِ الأَضَاحِي) وهو يشمل ما يُؤكَل منها في ثلاثة أيَّامٍ وما يُؤكَل في أكثر مِن ذلك، ولكن في أثر عليٍّ بيَّن أنَّهُ لا يجوز فوق ثلاثة أيَّامٍ، كما ذكرنا في أَوَّل الباب.
          و(حِبَّانُ) بكسر الحاء المُهْمَلة وتشديد الباء المُوَحَّدة (ابْنُ مُوسَى) أبو مُحَمَّدٍ السلميُّ المَرْوَزِيّ، و(عَبْدُ اللهِ) هو ابن المبارك المَرْوَزِيُّ، و(يُونُسُ) هو ابن يزيد الأيليُّ، و(الزُّهْريُّ) هو مُحَمَّد بن مسلمٍ، و(أَبُو عُبَيْدٍ) بِضَمِّ العين / وفتح الباء المُوَحَّدة، واسمه سعد بن عُبَيد مولى عبد الرَّحْمَن بن أزهر بن عوف، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، وينتسب أيضًا إلى عبد الرَّحْمَن بن عوف، قال يَحْيَى ابن بُكَيْرٍ: مات سنة ثمانٍ وتسعين.
          قوله: (نُسُكَكُمْ) بضمَّتين؛ أي: أضحيتكم.
          قوله: (قَالَ أَبْو عُبَيْدٍ) هو موصولٌ بالسند المذكور.
          قوله: (ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ) أي: ثُمَّ شهدت العيد مع عثمان، وكذا في بعض النُّسَخ لفظ <العيد> مذكورٌ، ولكنَّه لم يبيِّن أيَّ عيدٍ، قال بعضهم: والظاهر أنَّهُ عيد الأضحى الذي قدَّمه في حديثه عن عمر ☺ ، فتكون اللَّام فيه للعهد.
          قُلْت: يحتمل أحد العيدين، ولا سيَّما في الرواية التي لم يذكر فيها لفظ العيد.
          قوله: (فَكَانَ ذَلِكَ) أي: فكان يوم العيد ذاك يوم الجمعة.
          قوله: (فِيهِ عِيدَانِ) يعني: عيد الجمعة ويوم العيد حقيقة، وسُمِّي يوم الجمعة عيدًا؛ لأنَّه زمان اجتماع المسلمين في معبدٍ عظيمٍ لإظهار شعائر الشريعة كيوم العيد، والإطلاق على سبيل التشبيه.
          قوله: (مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي) وهو جمع (العالية) وهي قرًى بقربٍ مِنَ المدينة مِن جهة الشرق، وأقربها إلى المدينة على أربعة أميالٍ أو ثلاثةٍ، وأبعدها ثمانية.
          قوله: (فَلْيَنْتَظِرْ) أي: فليتأخَّر إلى أن يصلِّي الجمعة.
          قوله: (أَنْ يَرْجِعَ) أي: إلى منزله (فَقَدْ أًذِنْتُ لَهُ) بالرجوع، وبه استدلَّ أحمد على سقوط الجمعة عمَّن صلَّى العيد إذا وافق العيد يوم الجمعة، وبه قال مالكٌ مَرَّةً، وأُجيب بأنَّهم إِنَّما كانوا يأتون العيد والجمعة مِن مواضع لا يجب عليهم المجيء فأَخبَر بما لهم في ذلك.
          قوله: (ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ ☺ ) أي: ثُمَّ شهدت العيد مع عليٍّ، والمراد به عيد الأضحى لدلالة السياق عليه، ويؤيِّده ما رواه عبد الرَّزَّاق [عن معمرٍ، عن الزُّهْريِّ، عن أبي عُبَيدٍ: أنَّهُ سمع عليًّا ☺ يقول: يوم الأضحى.
          قوله: (فَوْقَ ثَلَاثٍ) زاد عبد الرَّزَّاق]
في روايته: فلا تأكلوها بعدها، قال القرطبيُّ: اختُلِف في أَوَّل الثلاث التي كان الادِّخار فيها جائزًا؛ فقيل: أوَّلها يوم النحر، فمَّن ضحَّى فيه جاز له أن يمسك يومين بعده، ومَن ضحَّى بعده أمسك ما بقي له مِنَ الثلاثة، وقيل: أوَّلها يوم يضحِّي فيه، فلو ضحَّى في آخر أيَّام النحر جاز له أن يمسك ثلاثًا بعدها، ويحتمل أن يُؤخَذ مِن قوله: (فَوْقَ ثَلَاثٍ) ألَّا يُحسَب اليوم الذي يقع فيه النحر مِن الثلاث ويعتبر اللَّيلة التي تليه وما بعدها.
          والجواب عن أثر عليٍّ ☺ : [أنَّهُ محمولٌ على أنَّ السَّنَة التي خطب فيها عليٌّ كان بالناس فيها جهدٌ، كما وقع في عهد النَّبِيِّ صلعم ، وبذلك أجاب ابن حزمٍ فقال: إِنَّما خطب عليٌّ ☺ ] بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حُوصِرَ فيه وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، فأصابهم الجهدُ؛ فلذلك قال عليٌّ ما قال، ويؤيِّد صحَّة هذا أنَّ الطَّحَاويَّ أخرج مِن طريق اللَّيث عن عُقَيلٍ عن الزُّهْريِّ في هذا الحديث، ولفظه: صلَّيتُ مع عليٍّ العيدَ وعثمانُ محصورٌ، وعن الشَّافِعِيِّ: لعلَّ عليًّا لم يبلغه النَّسخُ، والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاثٍ منسوخٌ في كلِّ حالٍ، وقال أبو عمر: لا خلافَ _فيما علمتُه_ بين العلماء في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثٍ، وقبلَ ثلاث، وأنَّ النهي عن ذلك منسوخٌ، ولا خلافَ في ذلك بين فقهاء المسلمين في ذلك.
          وأخرج الطَّحَاويُّ أحاديثَ النَّسخ عن جماعةٍ مِنَ الصحابة ♥ ؛ منهم: عليُّ بن أبي طالبٍ، قال: حَدَّثَنَا ابن أبي داود: حَدَّثَنَا أبو معمرٍ قال: حَدَّثَنَا عبد الوارث قال: حدَّثني عليُّ بن زيد قال: حدَّثني النابغة بن مخارق بن سُلَيمٍ قال: حدَّثني أبي: أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ قال: قال رسول الله صلعم : «إنِّي كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تؤخِّروها فوق ثلاثة أيَّامٍ فادَّخروها ما بدا لكم»، وأخرجه أحمد في «مسنده» مِن حديث ربيعة بن النابغة عن أبيه عن عليٍّ ☺ : أنَّ رسول الله صلعم نهى عن زيارة القبور... الحديث، وفي آخره: «ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تحبسوها بعد ثلاثٍ، فاحبسوا ما بدا لكم» قال الذهبيُّ: ربيعة بن النابغة عن أبيه عن عليٍّ في الأضحية لم يصحَّ، وقال ابن حِبَّان: / ربيعة روى عن أبيه عن عليٍّ، عداده في أهل الكوفة، وهو ثقةٌ، ثُمَّ وفَّق الطَّحَاويُّ بين الروايتين المتنافيتين بما ذكرناه الآن بقولنا: (والجواب عن أثر عليٍّ ☺ ...).
          (ص) وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْريِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوَهُ.
          (ش) هذا ظاهر أنَّهُ معطوفٌ على السند المذكور، فيكون مِن رواية حبَّان بن موسى عن ابن المبارك عن مَعْمَرٍ؛ هو ابن راشدٍ، ويحتمل أن يكون معلَّقًا، رواه الشَّافِعِيُّ في «الأمِّ» فقال: حَدَّثَنَا الثقة عن مَعمَرٍ... فذكره.
          قوله: (نَحْوَهُ) أي: نحوَ ما روى عن عليٍّ ☺ ، وهو قوله: (نهاكم أن تأكلوا لحم نُسُككُم فوق ثلاثٍ).