الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب من أحيا أرضًا مواتًا

          ░15▒ (باب مَنْ أَحْيَا) أي: بابُ بيانِ حُكمِ الشَّخصِ الذي أحيا من المسلمين (أَرْضاً مَوَاتاً) بفتح الميم وتخفيف الواو، ويقال لها: مَوتان _بفتح الواو وسكونها_ ويجوزُ جعلُ ((مَنْ)) شرطيةً وجوابُها محذوفٌ؛ أي: فهي له، وهو الأرضُ الخَرابُ أو الأرضُ التي لم تُعمَّرْ قطُّ، أو التي لم يجرِ عليها ملكٌ لمسلمٍ، وهذا أَولى.
          وعن الطَّحاويِّ: هي ما ليس بمِلكٍ لأحدٍ، ولا من مرافِقِ البلد، وعبَّرَ بعضُهم عن هذا بقوله: ولا هي حَريمٌ لمعمورٍ، وسمِّيَتْ مَواتاً تشبيهاً لها بفاقِدةِ الحياة؛ لأنَّها غيرُ مُنتفَعٍ بها بزَرعٍ ولا غَرسٍ ولا سقيٍ ولا بناءٍ، وشُبِّهَتْ عمارتُها بما ذُكِرَ بإحياء البدَن، فلذا يقال: أحيا الأرضَ الميتةَ، ويكفِي في جوازِ إحيائها عدمُ تحقُّقِ كونِها مِلكاً لأحدٍ بأنْ لا يُرى عليها أثَرُما تقدَّم، وليس فيها أصولُ شجَرٍ ولا جُدرٌ ولا أوتَادٌ ونحوُها.
          ولو كان بالأرض أثرُ عمارةٍ جاهليَّةٍ ولم يُعرفْ لها مالكٌ، فلمسلمٍ تملُّكُها بالإحياء وإن لم تكُنْ مَواتاً كالرِّكاز، بخلافِ ما لو كان بها أثرُ عمارةٍ إسلاميَّةٍ ولم يُعلمْ مالكُها؛ فإنَّ أمرَها إلى الإمامِ؛ لأنها كسَائرِ الأموالِ الضَّائعة، فيُفعَلُ ما فيه المصلحةُ من حفظِها، أو بَيعِها وحفظِ ثمنِها إلى ظُهورِ مالكِها.
          (وَرَأَى ذَلِكَ) أي: إحياءَ الأرضِ الميتةِ (عَلِيٌّ) أي: ابنُ أبي طالبٍ ☺ (فِي أَرْضِ الْخَرَابِ) بالخاء المعجمة؛ أي: الأرضِ الخارِبةِ؛ يعني: الموَات.
          (بِالْكُوفَةِ) قال في ((الفتح)): كذا وقعَ للأكثَر، وفي روايةِ النَّسفيِّ: <في أرضٍ بالكُوفةِ مَواتاً>، وقال القسطلانيُّ: والَّذي في الفرعِ: ((في أرضِ الخَرابِ بالكُوفةِ مَواتاً)) لكنَّه رقَمَ على قولِهِ: ((في أرض)) علامةَ السُّقوطِ من غيرِ عَزْوٍ لأحد، وعلى ((مواتاً)) علامةَ السُّقوطِ أيضاً لأبي ذرٍّ، قال: وفي نسخةٍ مقروءةٍ على المَيْدوميِّ: <في الخَرابِ مَواتٍ / بالكوفة> لكنَّه رقمَ على ((مَوات)) علامةَ السقوطِ من غيرِ عزوٍ لأحد.
          (وَقَالَ عُمَرُ) أي: ابنُ الخطاب ☺ ممَّا وصلَه مالكٌ في ((الموطَّأ)) (مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً) بتشديد الياء، ولا يقالُ هنا: أرضاً مَيْتةً _بالتخفيف_؛ لأنَّه لو خفَّفَ لحذَفَ التأنيثَ، كما قال الجوهريُّ: إنَّه يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ، قال اللهُ تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [الفرقان:49] ولم يقُلْ: ميِّتةً، كذا نقلَه العينيُّ عن شيخِه العراقيِّ، فاعرِفْه.
          وسببُ قولِ عُمرَ ما ذُكِرَ ما رواه يحيى بنُ آدمَ بسندِهِ عن ابنِ عمرَ قال: كانَ النَّاسُ يتحجَّرون _يعني: الأرضَ_ على عهدِ عمرَ، فقال: مَن أحيا أرضاً فهي له، قال يحيى: كأنَّه لم يجعَلْها له بمجرَّدِ التَّحْجيرِ حتَّى يُحييَها.
          (فَهْيَ لَهُ) أي: فالأرضُ لمَنْ أحياها، وظاهرُه أنه لا يتوقَّفُ على إذنِ الإمامِ اكتِفاءً بإذنِ الشَّارعِ، وهو مذهبُ الجمهور، وبه قال الشَّافعيُّ وأبو يوسُفَ ومحمَّد.
          نعم، يُستحَبُّ استئذانُه خروجاً من خلافِ مَنْ أوجبَ إذنَ الإمام مُطلَقاً كأبي حنيفةَ، وعن مالكٍ: لا بدَّ من إذنِه فيما قَرُبَ من العُمران، وضابطُ القُربِ: ما بأهلِ العُمرانِ إليه حاجةٌ من رَعْيٍ ونحوِه.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ للجمهورِ مع حديثِ البابِ بالقياس على ماءِ البحر والنهر، وما يُصادُ من طيرٍ وحيَوان، فإنَّهم اتفقوا على أنَّ مَنْ أخذَه أو صادَه يملِكْه سواءٌ قَرُبَ أم بعُدَ، وسواءٌ أَذِنَ الإمامُ له أو لم يأذَنْ.
          (وَيُرْوَى) أي: قولُ عمر: ((من أحيا أرضاً... إلخ)) (عَنْ عُمَرَ) أي: ابنِ الخطاب (وَابْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلعم) كذا في الفرعِ، على ما قاله القسطلانيُّ من أنَّ عمرَ هو ابنُ الخطَّاب، و((ابنُ عوفٍ)) بالفاءِ، هو عَمرٌو _بفتح العين_ ابنُ عوفٍ بنِ زيدٍ المزَنيُّ، صحابيٌّ، وهو غيرُ عمرِو بن عوفٍ الأنصاريِّ البَدْريِّ، وليس ((ابنُ عوفٍ)) هو عبدَ الرَّحمنِ كما قال الكرمانيُّ، نبَّه عليه القسطلانيُّ.
          وفي بعض النُّسخِ المعتمَدة، ونُسِبَتْ للفرعِ وأصلِهِ أيضاً، ويُروى: ((عن عَمرِو بن عَوفٍ)) بفتح العين فيهما، من غيرِ ذكرِ عمرَ بنِ الخطَّاب، وصحَّحَ هذه الكِرمانيُّ وقدَّمَها، وكذا الحافظُ ابنُ حجَرٍ، وقال: إنَّ عُمر _بضم العين_ تصحيفٌ، وقال الكرمانيُّ: فعلَيها يكونُ ذِكرُ عُمرَ تَكراراً؛ أي: مع قولهِ قبله: ((وقال عمرُ: من أحيا...إلخ)).
          وأجاب بأنَّ فيه فوائدَ:
          الأَولى: أنَّ الأولَ تعليقٌ بصيغةِ الصَّحيح، وهذا بصيغةِ التَّمريض، وذاكَ بدونِ زيادة، وهذا معَها، وذاك غيرُ مرفوعٍ إلى النَّبيِّ، وهذا مرفوعٌ إليه، قال: ومع هذا فالصَّحيحُ الأولُ؛ يعني: ((عَمرو)) بفتح العين، انتهى.
          قال في ((الفتح)): فضاعَ ما تكلَّفَه من التوجيه، انتهى، فتدبَّر.
          ويؤيِّدُ الصَّحيحَ أنَّ التِّرمذيَّ قال: وفي الباب عن جابرٍ وعَمرِو بنِ عوفٍ المزَنيِّ، وقال البرماويُّ: لكنَّ الصَّحيحَ الأولُ، ففي التِّرمذيِّ أنَّه يَرويهِ عمرُو بنُ عوفٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسولِ الله صلعم: ((مَنْ أحيا مَواتاً من الأَرْضينَ في غيرِ حقِّ مسلمٍ فهيَ له)).
          وقال العينيُّ كالكرمانيِّ: وصَلَه الطَّبرانيُّ وابنُ عَديٍّ والبيهقيُّ من روايةِ / كَثيرِ بنِ عبدِ الله، عن أبيه، عن جدِّه بلفظ: قالَ رسولُ الله صلعم: ((مَنْ أحيا أرضاً مَيْتةً فهي له، وليس لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ)).
          قال: وفي روايةٍ له: ((مَن أحيا مَواتاً من الأرضِ في غيرِ حقِّ مسلمٍ فهو له، وليسَ لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ)) ثم قال: ورواه إسحاقُ بنُ راهَوَيه، قال: أخبرَنا أبو عامرٍ العَقَديُّ، عن كثيرِ بنِ عبدِ الله بنِ عَمرِو بنِ عَوفٍ، قال: حدَّثَني أبي أنَّ أباه حدَّثَه أنه سمعَ النَّبيَّ صلعم يقول: ((مَن أحيا أرضاً مَواتاً من غيرِ أن يكونَ فيها حقٌّ لمسلمٍ فهي له، وليسَ لعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ)) قال: وكثيرٌ هذا ضعيفٌ، وليس لجدِّه عَمرِو بنِ عوفٍ في البخاريِّ سِوى هذا الحديث، انتهى.
          ومثلُه في ((الفتح)) ثم قالَ فيه: ولحديثِ عمرِو بنِ عَوفٍ المعلَّقِ شاهدٌ قويٌّ، أخرجَه أبو داودَ من حديثِ سعيدِ بنِ زيد، وله من طريقِ ابن إسحاقَ عن يَحيى بنِ عُروةَ عن أبيهِ مِثلُه مُرسَلاً.
          وزادَ: قال عُروة: فلقَدْ خبَّرَني الذي حدَّثَني بهذا الحديثِ أنَّ رجلَين اختصَما إلى النَّبيِّ صلعم؛ غَرَسَ أحدُهما نخلاً في أرضِ الآخَر، فقضَى لصَاحبِ الأرضِ بأرضِهِ، وأمَرَ صَاحبَ النخل أن يُخرِجَ نخلَه منها.
          وقال: في البابِ عن عائشةَ وسَمُرةَ وعُبادةَ وابنِ عمرَ برواياتٍ في أسانيدِها مَقالٌ، لكنْ يقوِّي بعضُها بعضاً، انتهى.
          وتعليقُ عمرِو بنِ عوفٍ وصَلَه ابنُ أبي شيبةَ في ((مسندِهِ)) قاله القسطلانيُّ تَبعاً للبرماويِّ.
          (وَقَالَ) أي: عمرُو بنُ عوفٍ زيادةً على ما تقدَّمَ من قولِ عُمرَ بنِ الخطَّاب (فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ) واحتَرزَ بقوله: ((في غيرِ حقِّ مسلمٍ)) عمَّا إذا كان فيها حقُّ مسلمٍ بأنْ كانَ أحيَاها أو حجَرَ عليها بتَحويطٍ، فإنَّه يحرُمُ على غيرِه حينئذٍ إحياؤها إلا بمُسوِّغٍ شرعيٍّ، كإذنِهِ له في ذلك؛ لحديثِ ((الصَّحيحَين)): ((مَنْ أخذَ شِبْراً من أرضٍ ظُلْماً فإنه يُطوَّقُه من سَبعِ أرَضِينَ)).
          ولحديثِ الشافعيِّ: عن ((عادِي الأرض للهِ ولرسولِهِ، ثمَّ هي لكم منِّي أيُّها المسلمونَ)) فإن كانَتِ الأرضُ المواتُ جاءَها ذمِّيٌ بدارِنا فلا يملِكُها وإنْ كانَ بإذنِ الإمام؛ لحديثِ الشَّافعيِّ المذكور، فللمُسلِمِ انتِزاعُها منه، لكنْ لا أُجرةَ على الذِّمِّيِّ مدَّةَ بقائها في يدِهِ؛ لأنها ليسَتْ مِلكَ أحدٍ.
          وقالتِ الحنفيَّةُ والحنابلة: إذا أحياً مسلمٌ أو ذِمِّيٌّ أرضاً لا يُنتفَعُ بها، وهي بعيدةٌ بحيثُ إذا صاحَ شخصٌ من أقصَى العامِرِ لا يُسمَعُ بها صوتُه، فإنه يملِكُها.
          وقوله: ((وليس لعِرْقٍ ظالمٍ فيه حقٌّ)) قال الكِرمانيُّ: أي: مَن غرَسَ في أرضِ غيرِه بغيرِ إذنِهِ فليس له حقُّ الإبقاءِ فيها، و((عِرْقٍ)) بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالقاف منوناً في روايةِ الأكثر، كما في ((الفتح)) فـ((ظالمٍ)) نعتٌ له، وبتركٍ التَّنوينِ فـ((ظالمٍ)) مُضافٌ إليه.
          قال في ((الفتح)): روايةُ الأكثَرِ بتنوينِ ((عرقٍ)) و((ظالمٍ)) نعتٌ له، وهو راجعٌ إلى صاحبِ العِرْق؛ أي: ليس لذي عرقٍ ظالمٍ، أو إلى العِرْق؛ أي: ليسَ لعرقٍ ذي ظُلمٍ، قال: ويُروى بالإضافة، ويكونُ الظَّالمُ / صاحبَ العِرْق، ويكونُ المرادُ بالعرْقِ الأرضَ، وبالأولِ جزَمَ مالكٌ والشافعيُّ والأزهريُّ وابنُ فارسٍ وغيرُهم، وبالَغَ الخطَّابيُّ فغلَّطَ روايةَ الإضافة.
          وقال شيخُ الإسلام وغيرُه: فنسبةُ الظُّلم للمُحيي حقيقيةٌ، وللعِرْقِ على التنوينِ مجازيةٌ، فإنْ قدَّرْتَ: وليس لِذي عِرْقٍ ظالمٍ كانتِ النِّسبةُ حقيقيَّةً إنْ جُعِلَتْ ((لِذي)) ومجازيَّةً إنْ جُعِلَتْ لـ((عِرْق)).
          وعن ربيعةَ وغيرِه: العروقُ أربعةٌ: عِرْقانِ ظاهران: وهما البناءُ والغِراس، وعِرقانِ باطِنَان: وهما المياهُ والعُيون.
          وقال القاضِي عياض: العِرْقُ الظَّالمُ أصلُه في الغَرْسِ يغرِسُه في الأرضِ غيرُ ربِّها ليستَوجبَها به، ويُطلَقُ على ما أشبهَه من بناءٍ أو استنباطٍ أو استخراجِ معدَنٍ، سُمِّيتْ عُروقاً لشِبهِها في الإحياءِ بعِرْقِ الغَرْس، انتهى.
          وقال الشافعيُّ: العِرقُ الظالمُ كلُّ ما احُتفِرَ أو بُنيَ أو غُرِسَ ظلماً في حقِّ امرئٍ تعيَّنَ خروجُه منه، وقال مالكٌ: كلُّ ما احتُفِرَ أو غُرِسَ أو أُخِذَ بغير حق.
          تنبيه: ((حقٌّ)) في الحديث اسمُ ((ليس)) مؤخَّر، و((لعِرْقٍ)) خبرُها مقدَّم، و((فيه)) متعلِّقٌ بـ((حق)) وضميرُه للإبقاء المفهومِ من المقام.
          وقال شيخُ الإسلام فيه؛ أي: في إبقاءِ ما أُحييَ بذلك من غَرْسٍ وغيرِه: وهو ظرفٌ لقولِه حقٌّ؛ أي: لا حقَّ له في ذلك، وإنْ جُعِلَ ضميرُ ((فيه)) للإحياءِ صحَّ أن يكونَ ظرفاً لظالمٍ أيضاً، انتهى.
          (وَيُرْوَى) بالبناء للمفعول (فِيهِ) أي: في هذا البابِ أو الحكمِ (عَنْ جَابِرٍ) أي: ابنِ عبدِ الله الأنصاريِّ ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم) وهذا التَّعليقُ عن جابرٍ وصَلَه أحمدُ عنه بلفظ: ((مَنْ أحيا أرضاً مَيتةً فله فيها أجرٌ، وما أكلَتِ العَوافي منها فهو له صدَقةٌ)).
          ووصلَه التِّرمذيُّ وصحَّحَه عن هِشام، فرَواه عنه أيوبُ عن هشامٍ موصولاً، ورواه يحيى بنُ عُروةَ عن أبيه مُرسلاً بلفظ: ((مَنْ أحيا أرضاً مَيتةً فهي له)).
          واختُلِفَ فيه على هشام، فرَواه عنه عبادٌ هكذا، ورواه يحيى القطَّانُ وأبو ضَمْرةَ وغيرُهما عنه، عن ابن رافعٍ، عن جابر، ورواه أيوبُ عن هشامٍ، عن أبيه، عن سعيدِ بنِ زيد، ورواه عبدُ الله بنُ إدريسَ، عن هشامٍ، عن أبيه مُرسلاً، واختُلِفَ فيه على عُروةَ.
          وقال في ((الفتح)): ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في عدم جزمِ البخاريِّ به.