الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا

          2320- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) بالقاف المضمومة (ابْنُ سَعِيدٍ) بكسر العين، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) بفتح العين المهملة، هو الوضَّاحُ اليشكرِيُّ (ح) إشارة لتحويل السَّند، أو لغيرِ ذلك مما مرَّ (وحَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ) أي: ابن عبد الله العيْشِي _بسكون التحتية فشين معجمة_ نسبةً إلى بني عائش.
          قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) هو المار آنفاً (عَنْ قَتَادَةَ) بفتح القاف؛ أي: ابن دِعامة؛ بكسر الدال المهملة (عَنْ أَنَسٍ) ولأبي ذرٍّ: <عن أنس بن مالك ☺> (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ) ولأبي ذرٍّ: <النَّبي> (صلعم) قال في ((الفتح)): أخرجَ هذا الحديث عن شيخين حدَّثه به كل منهما عن أبي عَوانة قال: ولم أر في سياقهمَا اختلافاً، وكأنَّه قصدَ أنه سمع من كلٍّ منهما وحدَهُ فلذلك لم يجمعْهُما، انتهى.
          (مَا مِنْ مُسْلِمٍ) قال في ((الفتح)): أخرجَ الكافر؛ لأنَّه رتَّبَ على ذلك كون ما أكلَ منه يكون له صدقة، وقال الطيبيُّ: نكَّر مسلماً وأوقعَه في سياق النَّفي، وزاد ((من)) الاستغراقيَّة وعمَّ الحيوان؛ ليدلَّ على سبيلِ الكنايةِ على أنَّ أي مسلمٍ كان حرًّا أو عبداً، مُطيعاً أو عاصياً يعمل أيَّ عملٍ من المباح ينتفعُ به بما عملهِ ويثابُ عليه.
          (يَغْرِسُ) بكسر الراء (غَرْساً) أي: مَغروساً شجراً (أو يَزْرَعُ زَرْعاً) أي: مَزروعاً وأو للتنويع؛ لأنَّ الزَّرع غير الغرس (فَيَأْكُلُ) بالرفع ولو نصبَ بأن مضمرةً بعد الفاء لم يمتنعْ، وفي بعضِ الأصُول: <فأكل> (مِنْهُ) أي: ممَّا ذكر، وإلَّا فأو التي للتَّنويع حُكمها كالواو.
          (طَيْرٌ) جمعُ طائرٍ، وقد يقعُ على الواحد، والجمع طيورٌ وأطيارٌ، كذا في ((القاموس)).
          (أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ) هي كما في ((القاموس)): كلُّ ذات أربعِ قوائم ولو في الماء، أو كلُّ حيٍّ لا يميِّز، والجمعُ بهائم والبهيمةُ أولادُ الضَّأن والمعزِ والبقرِ، والجمعُ بهم، ويحرَّك، وبهام، وجمع الجمع: بهامات، انتهى.
          (إِلاَّ كَانَ لَهُ) أي: للمسلمِ الغَارسِ أو الزَّارع (بِهِ) أي: بهذا الفعلِ المرتَّب عليه أكل ما ذكر (صَدَقَةٌ) بالرفع اسم كان مؤخَّر، ولو نصب على أنَّه خبر كانَ واسمها ضمير مستتر فيها عائداً إلى الفعل المذكور لم يمتنعْ، والمراد بالصَّدقة كما في ((التوضيح)) ثوابهَا مضَاعفاً؛ كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة:261] الآية، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): هي الثَّواب في الآخرةِ، وذلك يختصُّ بالمسلم، فلذا قيَّد في الحديثِ بالمسلم، قال: نعم ما أُكل من زرعِ الكافر مثلاً يُثاب عليه في الدُّنيا كما ثبتَ من حديث أنس عند مسلمٍ، قال: وأمَّا من قال أنَّه يخفَّف عنه بذلك من عذابِ الآخرة فيحتاجُ إلى دليلٍ، قال: ولا يبعدُ أن يقعَ ذلك لمن لم يرزقْ في الدُّنيا وفقد العافيةَ، انتهى فليتأمَّل. إذ لا دخلَ في مثلِ ذلك للعقلِ.
          وقال القاضِي عياضٌ: الإجماعُ على أن الكفَّار لا تنفعُهُم أعمَالهم ولا يُثابون عليها بنعِيم ولا تخفيف عذابٍ، نعم بعضُهم أشدُّ عذاباً من بعضِهم بحسبِ جرائمِهم، انتهى.
          ويؤيِّد ما نقله عياضٌ ما في حديث عائشة عند مسلم: ((قلتُ: يا رسولَ الله ابن جَدْعان كان في الجاهليَّة يصلُ الرَّحم ويُطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه؛ لأنه لم يقلْ يوماً ربِّ اغفر لي خطيئتي يومَ الدين)) يعنَي: لم يكن مؤمناً / مصَدقاً بالبعثِ، ومن لم يصدِّقْ بالبعثِ فهو كافرٌ فلا ينفعه عملٌ، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
          وأمَّا نحو حديث أحمد عن أبي أيُّوب مرفُوعاً بلفظ: ((ما من رجلٌ _وفي لفظْ: ما من عبد_ يغرسُ غرساً إلا كتبَ اللهُ له من الأجرِ قدر ما يخرجُ من ثمرِ ذلك الغرس))، فهو وإن كان عامًّا ظاهراً لكنَّه من المطلق فيحملُ على المقيد، فتأمَّل.
          والمراد بالمسلم الجنسُ فتدخلُ المرأة المسلمةُ والخنثَى كذلك.
          ومطابقةُ حديث الباب للتَّرجمة ظاهرة، ومثل حديث الباب ما مرَّ من حديث أبي أيُّوب عند أحمد، وكذا ما أخرجَه مسلمٌ من أفرادِهِ عن جابر قال: قال رسولُ الله صلعم: ((ما من مسلمٍ يغرسُ غرساً إلا كان ما أكلَ منه له صدقةٌ، وما أكلَ السَّبع فهو له صدقةٌ، وما أكلتْ الطَّير فهو له صدقةٌ، ولا يرزأه أحدٌ إلا كان له صدقةٌ)).
          وأخرجه أيضاً من رواية اللَّيث عن أبي الزُّبير عن جابر: أن النَّبي صلعم دخل على أمِّ معبدَ أو أمِّ مبشِّر الأنصَارية في نخلْ لها فقال لها النَّبي صلعم: ((مَن غرسَ هذا النَّخل أمسلم أم كافر؟ فقالتْ: بل مسلم فقال: لا يغرسُ مسلمٌ غرساً ولا يزرعُ زرعاً، فيأكلُ منه إنسانٌ ولا دابَّة ولا شيءٌ إلا كانتْ له صدقةٌ)).
          وأخرجه أيضاً من روايةِ زكريا بن أبي إسحاق: أخبرني عَمرو بن دينار: أنه سمعَ جابر بن عبد الله يقول: دخلَ النَّبي صلعم على أمِّ معبدٍ، ولم يشك، فذكر نحوه.
          قال في ((الفتح)): وفي روايةٍ أخرى: ((امرأة زيد بن حارثة)) قال: وهي واحدةٌ لها كنيتان، وقيل: اسمُها خليدةُ، انتهى.
          وقال النَّوويُّ: ويقال فيها أيضاً أم بشيرٍ، وكذا ما أخرجَهُ أحمدُ في ((مسنده)) عن أبي الدَّرداء: أن رجلاً مرَّ به وهو يغرس غرساً بدمشق، فقال: أتفعلُ هذا وأنت صاحبُ رسولِ الله؟ قال: لا تعجلْ عليَّ سمعتُ رسول الله صلعم قال: ((مَن غرسَ غرساً لم يأكلْ منه آدمِي ولا خلقٌ من خلقِ الله إلَّا كان له به صدقةٌ))، وقد أخرج مسلمٌ هذا الحديث عن جابر من طُرق ذكرنا آنفاً بعضها، ومما لم يذكر ما أخرجَه عنه أيضاً بلفظ: ((فيأخذُ منه إنسانٌ أو طيرٌ أو دابَّة إلا كان له صدقةٌ إلى يوم القيامة)).
          وأخرج أحمدُ عن معاذ بن أنس: أن رسولَ الله قال: ((مَن بنى بيتاً في غيرِ ظلمٍ ولا اعتداءٍ، أو غرسَ غرساً في غيرِ ظُلم ولا اعتداءٍ كان له أجراً جارياً ما انتفعَ من خلقِ الرَّحمن تباركَ وتعالى أحدٌ)).
          وما أخرجه عليُّ بن عبد العزيز في ((المنتخب)) بإسناد حسنٍ عن أنس قال رسولُ الله: ((إن قامت السَّاعة وبيدِ أحدكُم فسيلةً فاستطاعَ أن لا يقومَ حتَّى يغرسها فليغرسْها)).
          ░2320 م▒ (وَقَالَ لَنَا مُسْلِمٌ) بسكون السين المهملة، هو: ابنُ إبراهيم الفرَاهيدِي البصري، وسقطتْ: <لنا> في رواية النَّسفي وجماعة، وثبتتْ لأبي ذرٍّ والأصيليِّ وكريمة، قاله في ((الفتح)).
          (حَدَّثَنَا أَبَانُ) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، قال في ((الفتح)): هو: ابنُ يزيد العطَّار، ولا يخرِّجُ له البخاريُّ إلا استشهاداً قال: ولم أر له في كتابهِ شيئاً موصُولاً إلا هذا، ونظيرهُ عنده حمادُ بن سلمةَ فإنه لا يخرِّج له إلا استشهاداً.
          قال: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) أي: ابن دِعامة، قال: (حَدَّثَنَا / أَنَسٌ) أي: ابن مالك ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم) لم يذكر المصنِّف متنَ حديثِ هذا الإسناد؛ لأن غرضَه منه التَّصريحُ بالتَّحديثِ عن قتادةَ عن أنسٍ، وقد أخرجَهُ مسلم بن الحجَّاج، عن عبدِ الله بن حُميد، عن مسلم بن إبراهيم المذكور في المتنِ بلفظ: أن النَّبيَّ صلعم رأى نخلاً لأمِّ مبشِّر امرأة من الأنصَار ♦ فقال النَّبي صلعم: ((مَن غرسَ هذا النَّخل أمسلمٌ أم كافرٌ)) قالوا: مسلم، فذكر الحديثَ بنحو ما مرَّ قريباً.
          وفي الحديثِ كما في ((الفتح)) وغيره فضلُ الغرسِ والزَّرع، والحضُّ على عمَارة الأرض، وفيه اتخاذُ الضَّيعة والقيام عليها، وفيه فسادُ قول من أنكرَ ذلك من المتزهدةِ احتجَاجاً بما وردَ من التنفيرِ عن ذلك، فمنه ما رواه التِّرمذيُّ وحسَّنه، وابن حبَّان من حديث ابنِ مسعود مرفُوعاً: ((لا تتَّخذوا الضَّيعة فترغبُوا في الدُّنيا))، وفي روايةٍ: ((فتركنُوا إلى الدُّنيا)).
          وجمعَ القرطبيُّ بينهُ وبينَ حديثِ الباب بحملهِ على الاستكثَارِ والاشتغالِ به عن أمرِ الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذِهَا للكفَاف أو لنفْعِ المسلمين بها، وتحصيلِ ثوابها، وظاهرُه مع حديثِ مسلمٍ المار: ((إلَّا كان له صدقةٌ إلى يوم القيَامةِ)) أن أجرَ ذلك يستمرُّ لفاعلهِ وإن ماتَ ما دامَ الغرسُ أو الزَّرع، ولو انتقلَ مِلكهُ إلى غيرهِ.
          قال ابنُ العربيِّ: في سعةِ كرمِ الله أن يثيبَه بعد الحياةَ، كما كان يثيبُه في الحياةِ، قال: وذلك في ستَّة: صدقةٌ جاريةٌ، أو علمٌ ينتفعُ به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له، أو غرسٌ أو زرعٌ أو رباطٌ، فللمرابطِ ثوابُ عملهِ إلى يوم القيامةِ، انتهى.
          وقال العينيُّ: قوله في الحديث: ((إلى يوم القيامةِ)) هل يريدُ به أن أجرَهُ لا ينقطعُ إلى يوم القيامةِ، وإن فنيَ الزرعُ والغراسُ، أو يريدُ ما بقيَ ذلك الزرع والغراسُ منتفعاً به وإن بقيَ إلى يوم القيامة؟.
          قلت: الظَّاهر الثاني، وزاد النَّوويُّ أن ما يولدُ من الغرسِ والزَّرع، كذلك ففيه الأجرُ إلى يوم القيامة.
          لطيفةٌ: نقل الطِّيبي عن محيي السنَّة أنه رويَ أن رجلاً مرَّ بأبي الدَّرداء وهو يغرسُ جوزة، فقال: أتغرسُ هذه وأنت شيخٌ كبيرٌ، وهذه لا تطعم إلَّا في كذا كذا عاماً؟ فقال: ما عليَّ أن يكون لي أجرُها ويأكلُ منها غيري.
          قال: وذكر أبو الوفاء البغداديُّ أنه مرَّ أنوشروان على رجلٍ يغرسُ شجر الزَّيتون، فقال له: ليس هذا أوانُ غرسِكَ الزيتون وهو شجرٌ بطيءُ الإثمار فأجابه: غرسَ مَن قبلنا فأكلنَا، ونغرسُ ليأكل من بعدنا، فقال أنوشروان: زه؛ أي: أحسنت، وكان إذا قال: زه، يُعطي من قيلتْ له أربعة آلاف درهم، فقال: أيُّها الملك كيف يتعجَّبُ من غرسِي وإبطاء ثمرهِ فما أسرعَ ما أثمرتْ، فقال: زه، فزيد أربعة آلاف أخرى، فقال الرجل: كلُّ شجرٍ يثمرُ في العام مرَّة، وقد أثمرتْ شجرِي في ساعة مرَّتين، فقال: زه، فزيد مثلها فمضَى فقال: إنْ وقفنا عليه لم يكفهِ ما في خزائننا، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: ثم إن حصول هذه الصَّدقة المذكورة يتناولُ حتى مَن غرسَه لعياله أو لنفقتهِ؛ لأن الإنسانَ يثابُ على ما سُرق له وإن لم ينو ثوابَهُ، ولا يختصُّ حصُول ذلك بمَن يباشرُ الغراسَ أو الزِّراعة، بل يتناولُ من استأجرَ غَيره لعملِ ذلك، وكذا يثابُ على ما عجزَ عن جمعهِ كالسَّنبل المعجُوز عنه فيأكلُ منه حيوان فإنَّه داخلٌ في الحديث.
          وقال ابنُ الملقِّن: وفيه من الفقهِ أنَّ من زرعَ في أرض غيرهِ أن الزَّرع للزارعِ ولربِّ الأرضِ عليه / كراء أرضِه، وفيه حثٌّ على عمَارة الأرض لتعيشَ نفسه، أو مَن يأتي بعده ممَّن يؤجَرُ فيه، وفيه دليلٌ على أنَّ الزِّراعة أفضلُ المكاسبِ كلها وهو أحدُ أقوال في ذلك، وبه قال كثيرون، ورجَّحه النَّووي فقال: أفضلها الزَّراعة، وقيل: أفضلها الكسبُ باليدِ وهي الصَّنعة؛ لما روى الحاكمُ في ((المستدرك)) وقال: صحيحُ الإسناد من حديث أبي بُردة قال: سُئل رسولُ الله صلعم أي الكسبِ أطيب؟ قال: ((عملُ الرجلِ بيدِهِ، وكلُّ عَملٍ مبرورٍ))، وقيل: التِّجارة.
          ورجَّحه ابنُ حجر في ((الفتاوى الحديثية)) وكثيرٌ من الحنفيَّة لكن بعد الكسبِ بالجهادِ.
          وقال ابنُ حجر في ((التحفة)) والرَّملي ((في النهاية)): أفضلُ المكاسبِ الزِّراعة؛ لأنها أعمُّ نفعاً وأقربُ للتَّوكل وأسلمُ من الغشِّ، ثم الصِّناعة؛ لأن فيها تعباً في طلبِ الحلالِ أكثر، ثمَّ التَّجارة، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ كالعينيِّ: وقد يقال: كسبُ اليد أفضلُ من حيثُ الحل، والزَّرع من حيث عُموم الانتفاعِ، وحينئذٍ فينبَغِي أن يختلفَ ذلك باختلافِ الحالِ، فحيثُ احتيجَ إلى الأقواتِ أكثر تكونُ الزِّراعة أفضلُ للتَّوسعة على النَّاس، وحيث احتيجَ إلى المتجرِ لانقطاعِ الطُّرق تكون التِّجارة أفضلُ، وحيث احتيجَ إلى الصَّنائع تكون أفضلُ.
          وحديث الباب أخرجَه المصنِّف أيضاً في الأدب، والتِّرمذيُّ في الأحكامِ.