الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب أوقاف أصحاب النبي وأرض الخراج ومزارعتهم ومعاملتهم

          ░14▒ (بابُ أَوْقَافِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم) أي: بيانُ حُكمِ أوقافِ بعضِ أصحابِ النَّبيِّ عليه السَّلام، و((أوقاف)) بقافٍ وفاء، جمعُ وَقْف، و((أصحاب)) جمعُ صحب، بمعنى الصَّحابيِّ.
          (وَأَرْضِ الْخَرَاجِ) معطوفٌ على ((أوقاف)) (وَمُزَارَعَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ) أي: أصحابِ النَّبي صلعم ورضيَ عنهم، و((مُزارعتِهم)) بضم الميم كـ ((مُعاملتِهم)) مصدرا زارَعَ وعامَلَ، وذلك في أرضِ خيبَرَ.
          قال ابنُ بطَّال: قال إسماعيلُ بنُ إسحاق: كانت خَيبرُ جماعةَ حُصونٍ، فافتتَحَ بعضَها بقتال، وبعضُها أسلمَها أهلُها على أن يحقِنَ دماءَهم، هذا قولُ ابنِ إسحاقَ عنِ الزُّهريِّ، فكان حُكمُ خيبرَ كلِّها حُكمَ العَنوةِ، قال: ومعنى هذه التَّرجمة _والله أعلم_ أنَّ الصحابةَ ♥ كانوا يُزارِعونَ ويُساقونَ أوقافَالنَّبيِّ صلعم بعد وفاتِه على ما كان عاملَ النَّبيُّ عليه السَّلام عليه يهودَ خَيبرَ؛ فإنَّ العملَ جرى بالمُزارعة والمُساقاة في أوقافِ النَّبيِّ صلعم، وفي أرضِ خَراج المسلمين، ولم يُروَ عن أبي بكرٍ ولا عُمرَ ولا غيرِهما أنَّهم غيَّروا حُكمَ رسول الله صلعم في هذا، فهي سُنَّةٌ ثابتةٌ معمولٌ بها، انتهى، فتأمَّلْه.
          وقال في ((الفتح)): وأخذُ المصنِّفِ صدرَ التَّرجمة من الحديثِ الأول ظاهرٌ، ويؤخَذُ أيضاً من الحديث الثاني؛ لأنَّ بقيَّةَ الكلامِ محذوفٌ تقديرُه: لكنَّ النَّظرَ لآخرِ المسلمين يقتضي أن لا أقسِمَها، بل أجعلُها وقفاً على المسلمين، وقد صنعَ ذلك عمرُ في أرض السَّواد.
          وأما قوله: ((وأرضِ الخَراج...إلخ)) فيؤخَذُ من الحديثِ الثاني، فإنَّ عمرَ لـمَّا وقَفَ السَّوادَ ضربَ على مَنْ بيدِه من أهلِ الذِّمَّةِ الخَراجَ، فزارعَهم وعامَلَهم، فبهذا يظهرُ مُرادُه من هذه التَّرجمة ودخولُها في أبوابِ المزارعة، انتهى، فتأمَّل.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِعُمَرَ) أي: ابنِ الخطاب ☺ لمَّا تصدَّقَ بمالٍ، وقوله: (تَصَدَّقْ) أمرٌ مبنيٌّ على السكون (بِأَصْلِهِ لاَ يُبَاعُ) وقوله: ((تصدَّقْ...إلخ)) كنايةٌ عن وقفِ المال الذي تصدَّقَ به عمر، ومثلُ البيعِ هِبتُه وإرثُه، فضميرُ ((بأصله)) عائدٌ على المال المقدَّر، وضميرُ ((لا يُباعُ)) إلى ((أصله)).
          وقال الكِرمانيُّ: لفظُ ((تصدَّقْ)) أولاً أمرٌ، وثانياً ماضٍ، والأول كلامُ الرسول، والثاني كلامُ الرَّاوي، واحتَرزَ ((بأصله)) عن ثمرتِه؛ فإنَّها تُباع، ولذا قال: (وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ) ببناء ينفق للمجهول، و((ثمره)) بالمثلثة، نائبُ فاعلِه.
          (فَتَصَدَّقَ) أي: عمرُ (بِهِ) أي: بالمال المذكور في هذا الحديثِ الذي وصلَه المصنِّفُ في الوصايا عن ابن عمر: أنَّ عمرَ ☺ تصدَّقَ بمالٍ له على عهدِ رسولِ الله صلعم، وكان يقال له: ثَمْغٌ وكان نخلاً، فقال عمر: يا رسولَ الله؛ إنِّي استفدتُ مالاً، وهو عندي نَفيس، فأردتُ أن أتصدَّقَ به، فقال النَّبيُّ صلعم: / ((تصدَّقْ بأصلِهِ، لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، ولكن يُنفَقُ ثمرُه)) فتصدَّقَ به عمرُ ☺، فصدقتُه ذلك في سبيلِ الله، وفي الرِّقاب والمساكينِ والضَّيفِ وابنِ السبيل، ولِذي القُربى، ولا جُناحَ على مَنْ وَلِيَه أن يأكُلَ منه بالمعروفِ، وأن يؤكِلَ صديقَه غيرَ متموِّلٍ به، انتهى.
          و((ثمغ)) بفتح المثلثة وسكون الميم فغين معجمة، كذا في العينيِّ، وقال في ((القاموس)): ((ثمغ)) بالفتح، مالٌ بالمدينةِ لعمرَ وقفَه، انتهى.
          وقال في ((النهاية)) في حديثِ صدقةِ عُمرَ: إنْ حدَثَ به حدَثٌ إنَّ ثَمْغاً وصِرْمةَ بنَ الأكوَعِ وكذا وكذا جعله وَقْفاً، هُما مالان معروفان بالمدينةِ كانا لعمرَ بنِ الخطَّابِ فوقَفَهما، انتهى.
          وفي ((معجم البكريِّ)): ((ثَمْغ)) موضعٌ تِلقاءَ المدينة، كان فيه مالٌ لعُمرَ بنِ الخطاب، فخرج إليه يوماً، ففاتَتْه صلاةُ العصر، فقال: شغلَتْني ثَمْغٌ عن الصَّلاة، أُشهِدُكم أنَّها صدقة.
          وفي ابن الملقِّن: قال ابنُ التِّين عن الدَّاوديِّ: إنَّ قوله: ((تصدَّقْ بأصله)) ما أَراه محفوظاً، وإنما أمرَه أن يتصدَّقَ بثمَرِه ويُوقِفَ أصلَه، قال: وقولُ عمرَ أخرجَه البخاريُّ في موضعٍ آخرَ بلفظ: ((لولا أن أترُكَ النَّاسَ بَبَّاناً ليس لهم شيءٌ ما فُتِحَتْ عليَّ قريةٌ...إلخ)).
          ولأحمدَ: ((لَئِنْ عِشتُ إلى هذا العام المقبِلِ لا يفتَحِ النَّاسُ قريةً إلَّا قسمتُها بينكم))، ثم قال: ((ببَّاناً)) هو بباءين موحدتين وبعد الألف نون؛ أي: شيئاً واحداً.
          قال أبو عُبيد: لا أحسِبُها عربيةً، انتهى.
          فائدة: حكى الماورديُّ أنَّ صدقةَ عمرَ المذكورةَ هي أولُ صدقةٍ تُصدِّقَ بها في الإسلام.