نجاح القاري لصحيح البخاري

باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت

          ░7▒ (باب إِذَا خَافَ الْجُنُبُ / عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ) المتلِفَ، والمرض الذي يخاف الزيادة فيه، أو بطء البرء من استعمال الماء هل يباح له التيمم أو لا؟
          قال الشافعي: نعم، وهو الأصح عنده، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وعن مالك رواية بالمنع.
          وقال عطاء والحسن البصري في رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلاً، وكرهه طاوس، وإن كان مرضاً لا يلحقه باستعمال الماء ضرر كالصداع والحمى لا يجوز له التيمم، وقال داود: يجوز، ويحكى عن مالك وعنه أنه لا يجوز، ولو خاف من استعمال الماء شيناً في العضو الطاهر.
          قال أبو العباس: لا يجوز له التيمم على مذهب الشافعي، وقال غيره: إن كان الشَّين كَأثَرِ كالجدري والجراحة ليس له التيمم، وإن كان يشوه من خلقه ويسود من وجهه كثيراً، فيه قولان. وفي ((شرح الوجيز)) ما حاصله: أن المرض الذي يخاف فيه الزيادة، أو بطء البرء فيه ثلاث طرق:
          أظهرها: أن في جواز التيمم قولين: أحدهما: المنع وهو قول أحمد، وأظهرهما: الجواز وهو قول الجمهور.
          والثانية: أنه لا يجوز قطعاً.
          والثالثة: أنه يجوز قطعاً.
          (أَوِ) إذا خاف (الْمَوْتَ) من استعماله الماء يجوز له التيمم بلا خلاف، وفي ((فتاوى قاضيخان)): الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك للبرد جاز له التيمم بالاتفاق، وكذا المسافر إذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم بالاتفاق، وأما المحدث في المصر، فاختلفوا فيه على قول أبي حنيفة، فجوزَّه شيخ الإسلام، ولم يجوِّزْه الحلواني.
          (أَوْ خَافَ الْعَطَشَ) على نفسه (تَيَمَّمَ) وفي رواية: <يتيمم> وكذا عندنا إذا خاف على رفيقه، أو على حيوان معه نحو دابته وكلبه وسنوره وطيره.
          وفي ((شرح الوجيز)): (لو خاف على نفسه، أو ماله من سبع أو سارق فله التيمم، ولو احتاج إلى الماء لعطش في الحال، أو لتوقعه في المآل، أو لعطش رفيقه، أو لعطش حيوان محترم جاز له التيمم).
          وفي ((المغني)) لابن قدامة: أو كان الماء عند جمع فُسَّاق، فخافت المرأة على نفسها الزنا جاز لها التيمم، هذا، ثمَّ إن خوف العطش غير مقتصر على الجنب، بل هو والمحدث فيه سواء، ولعله للإشارة إلى هذا، زاد قوله: خاف.
          (وَيُذْكَرُ) على صيغة البناء للمفعول (أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ) بنَ وائل بن هاشم القرشي السهمي أبا عبد الله، قدم على النبي صلعم في سنة ثمان قبل الفتح مسلماً، وهو من دهاة قريش، ولاَّه النبيُّ صلعم على عُمَان، ولم يزل / عليها حتى قبض رسول الله صلعم ، وكان لا يرفع طرفه إلى رسول الله صلعم حياءً منه، روي له عن رسول الله صلعم سبعة وثلاثون حديثاً، وللبخاري ثلاثة أحاديث، مات بمصر عاملاً عليها سنة ثلاث وأربعين على المشهور يوم الفطر، صلى عليه ابنه عبد الله، ثمَّ صلى العيد بالناس.
          (أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ) في غزوة ذات السلاسل، وهي وراء وادي القُرَى، بينها وبين المدينة عشرة أيام، وقيل: سميت بماءٍ بأرضِ جُذَام، يقال له: السلسل، وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة (فَتَيَمَّمَ) وصلى بأصحابه الصبح (وَتَلاَ) بالواو، وفي رواية: <فتلا> بالفاء ؛ أي: تلا بعد ما تيمم، فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهر السياق بأنه إنما تلا الآية بعد ما رجع إلى النبي صلعم ، وأما ما في رواية أبي داود من تلاوته عند حضرة النبي صلعم كما سيجيء هنا ذِكْرُه، فلا دلالة له على أنه لم يقرأ قبلُ إنْ وَصَلَ إليه صلعم ؛ لجواز تكرر التلاوة.
          ({وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}) بإلقائها إلى التهلكة ({إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}) فيرفق بكم بالرخص (فَذُكِرَ) على البناء للمفعول، وفي رواية: <فذَكَرَ ذلك> (لِلنَّبِيِّ صلعم فَلَمْ يُعَنِّفْه) أي: لم يُلِمْ رسولُ الله صلعم عَمْراً، وفي رواية: <فلم يعنف> بحذف المفعول للعلم به، وعدم تعنيفه إياه تقريرٌ، فيكون دليلاً للجواز، وبه يُعْلَمُ عدم إعادةِ الصلاة التي صلاها بالتيمم، فهو حجة على من يأمره بالإعادة.
          وفي الحديث أيضاً: جواز التيمم لمن يتَوقع من استعمال الماء الهلاكَ سواء كان للبرد أو لغيره، وسواء كان في السفر أو في الحضر، وسواء كان جنباً أو محدثاً، وفيه دلالة على جواز الاجتهاد في عصره صلعم أيضاً، ثمَّ إن هذا التعليق وصله أبو داود والحاكم من طريق يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلتُ أن أهلِك فتيمَّمْت، ثمَّ صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلعم فقال: ((يا عمرو صلَّيت بأصحابك وأنت جنب؟)) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29]، فضحك رسول الله صلعم ولم يقل / شيئاً، وإسناده قوي لكنه علَّقه بصيغة التمريض ؛ لكونه اختصره.