نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء

          ░6▒ (باب) بالتنوين (الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ) مبتدأ وصفته (وَضُوءُ الْمُسْلِمِ) بفتح الواو (يَكْفِيهِ) أي: يجزئه ويغنيه (مِنَ الْمَاءِ) عند عدمه حقيقة أو حكماً.
          وقد روى أصحاب ((السنن)) من طريق أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدان بضم الموحدة وسكون الجيم، عن أبي ذر نحوه مع زيادة: ((ولو إلى عشر سنين))، وفي رواية: «وإن لم يجد الماء عشر سنين» وصححه الترمذي، وابن حبان، والدارقطني، والمراد بها الكثرة لا العشرة بعينها، وتخصيص العشرة لأجل الكثرة ؛ لأنها منتهى عدد الآحاد.
          والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى، وإن بلغت مدة عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أن التيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) البصري (يُجْزِئُهُ) بضم الياء وبالهمزة من الإجزاء، وهو لغة: الكفاية، واصطلاحاً: الأداء الكافي لسقوط المتعبد به، ويروى: <يَجْزيه> بفتح الياء الأولى وسكون الثانية:
          وقال الجوهري: جزأت بالشيء اكتفيت به، وجزئ عني هذا: أي: قضى، فهو على التقديرين لازم، فلعلَّ التقدير: يقضي عن الماء.
          (التَّيَمُّمُ) فحذف الجار وأوصل الفعل، والغرض: أن التيمم حُكْمُه حكمُ الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة والنوافل به (مَا لَمْ يُحْدِثْ) بأحد الحدثين ؛ أي: مدة عدم الحدث، وهو قول أصحابنا، وبه قال إبراهيم وعطاء وابن المسيَّب والزهري والثوري والليث والحسن بن حيٍّ وداود بن علي، وهو المنقول عن ابن عباس ☻ .
          وقال الشافعي: يتيمم لكلِّ صلاة فرض، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وهو قول قتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وشريك والليث وأبي ثور، وذكره البيهقي عن ابن عمر وابن عباس من طرقٍ ضعيفة.
          ثمَّ إن المؤلِّف ☼ ذكره عن الحسن معلَّقاً، ووصله ابن أبي شيبة عنه بلفظ: «لا ينقض التيمم إلا الحدث»، وحكاه أيضاً عن إبراهيم وعطاء، ووصله أيضاً عبد الرزاق بلفظ: «يجزئ تيمم واحد ما لم يحدث»، / ووصله أبو منصور أيضاً، ولفظه: «التيمم بمنزلة الوضوء إذا توضأت فأنت على وضوء حتى تحدث».
          وقال ابن حزم: روينا عن حماد بن سلمة؛ يعني: من ((مصنفه))، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لم يحدث.
          (وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ) للمتوضئين، وصله ابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهما، وإسناده صحيح.
          ووجه مناسبته للترجمة من حيث إنَّ التيمم وضوء المسلم، فإذا كان كذلك يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ، فدلَّ ذلك على أن التيمم طهارة مطلقة غير ضرورية، إذ لو كان ضرورياً ؛ لكان ضعيفاً، ولو كان ضعيفاً لما أمَّ ابنُ عباس، وهو متيمم لِمَنْ كان متوضئاً. وهذا مذهب أصحابنا، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
          وعن محمد بن الحسن: أنه لا يجوز، وبه قال الحسن بن حيٍّ، وكَرِهَ مالكٌ وعبد الله بن الحسن ذلك، وإن فَعَلَ أجزأ.
          وقال ربيعة: لا يؤم المتيمم من جناية إلا من هو مثله، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري، وقال الأوزاعي: لا يؤمهم إلا إذا كان أميراً كبيراً، قاله ابن حزم.
          وقال أبو طالب: (سألت أبا عبد الله عن الجنب يؤم المتوضئين؟ قال: نعم، قد أم ابن عباس أصحابه وفيهم عمار بن ياسر، وهو جنب، فتيمم، وعمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب، فأخبر النبي صلعم ، فتبسم).
          فإن قيل: قد روي عن جابر مرفوعاً: ((لا يؤم المتيمم المتوضئين، ولا المُقَيَّدُ المطْلَقِين)).، فالجواب: أن هذا حديث ضعيف، ضعَّفه الدارقطني وابن حزم وغيرهما.
          وأما حديث الزهري، عن ابن المسيَّب، عن عمر بن الخطاب ☺ مرفوعاً: ((لا يؤم المتيمم المتوضئين)) فقد ذكره أبو حفص بن شاهين في كتاب ((الناسخ والمنسوخ)) وذكر بعده حديث عمرو بن العاص وقال: يحتمل أن يكون هذا الحديث ناسخاً للأول.
          وهذا الحديث أجود إسناداً من حديث الزهري، وإن صح فيحتمل أن يكون النهي في ذلك لضرورةٍ وقعت مع وجود الماء.
          وقال الحافظ العسقلاني: (هذه المسألة وافق فيها البخاري الكوفيين، والجمهور على خلاف ذلك).
          وتعقَّبه محمود العيني: بأن هذا عكس القضية، بل الجمهور على الموافقة، يقف عليه من يمعن النظر في الكتب، وقال ذلك الحافظ أيضاً، واحتج المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب: ((فإنه يكفيك ما لم تحدث، / أو تجد الماء)) وحمله الجمهور على أعم من ذلك ؛ أي: لفريضة واحدة، وما شئت من النوافل.
          وتعقَّبه محمود العيني أيضاً: بأن معنى قوله: فإنه يكفيك ؛ أي: في كل الصلوات فرضها ونفلها، وهذا هو معنى الأعمية ؛ لأن معنى الأعمية أن يكون شاملاً لجميع أفراد ذلك الشيء، وليس لقوله: لفريضة واحدة، إفراد، وأما النفل فإنه تبع للفرض، والتابع ليس له حكم مستقل، بل حكمه حكم المتبوع.
          (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيد) الأنصاري (لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ) السَّبَخَة بفتح حروفها كلِّها واحدة السِّباخ، فإذا قلت أرض سَبِخَة كَسَرْتَ الباء.
          وقال ابن سيده: هي أرض ذات ملح ونزٍّ، جمعها: سباخ، وقد سَبِخَت سَبَخَاً فهي سَبِخَة وأَسْبَخَتْ، وقال غيره: هي أرض تعلوها ملوحة لا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
          وفي ((الباهر)) لابن عديس: سَبِخَت، بكسر الباء وفتحها.
          وفي ((شرح الموطأ)) لعبد الملك بن حبيب: السَّبَخَة: الأرض المالحة التي لا تنبت شيئاً، وليست الردغة ولا الرداغ كما يقول من لا يعرف.
          ومطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنَّ معنى الطيب: الطاهر، والسبخة طاهرة، فتدخُل تحت الطيب، ويدل عليه ما روى ابن خزيمة من حديث عائشة ♦ في شأن الهجرة أنه قال صلعم : ((أُرِيْتُ دارَ هجرتكم سبخةً ذات نخيل)) يعني: المدينة.
          قال: وقد سمى النبي صلعم المدينة طيبة، فدل أن السبخة داخلة في الطيب، ولم يخالف في ذلك إلا إسحاق بن راهويه.