نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي

          335- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ) بكسر المهملة وخفة النون، العَوَقي بفتح العين المهملة والواو، وبالقاف الباهِليّ البصري، وقد مر في أول كتاب العلم [خ¦59]، تفرد به البخاري، وزاد الأَصيلي: <هو العوقي> (قَالَ: حَدَّثَنَا) وفي رواية: <أخبرنا> (هُشَيْمٌ) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية، هو ابن بشير بصيغة التكبير الواسطي أبو معاوية، وكنية بشير أبو خازم، بالمعجمة وبالزاي، جاء رجل من العراق، فذاكر / مالكاً الحديث فقال مالك: وهل بالعراق أحد يحسن يحدث إلا ذاك الوسطى؛ يعني: هشيماً، وهو أحد أئمة الحديث.
          وقال ابن عون: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء العشاء قبل أن يموت بعشر سنين، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة ببغداد.
          (ح) إشارة إلى التحويل من إسناد إلى آخر؛ يعني: يروي البخاري عن هشيم بواسطة شيخين أحدهما محمد بن سنان، والآخر سعيد بن النضر حيث (قَالَ): أي: البخاري (وَحَدَّثَنِي) بالإفراد، وفي رواية: <وحدثنا> بالجمع (سَعِيدُ ابْنُ النَّضْرِ) بفتح النون وسكون المعجمة، أبو عثمان البغدادي، مات بآمل جيحون سنة أربع وثلاثين ومائتين (قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ) المذكور سابقاً.
          (قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ) بفتح المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية وبالراء، ابن أبي سيار، وَرْدان، بفتح الواو وسكون الراء، أبو الحكَم، بفتح الكاف، العَنَزِي الواسطي، مات بواسط سنة اثنتين وعشرين ومائة، واتفقوا على توثيق سيار، وأخرج له الأئمة الستة وغيرهم، وقد أدرك بعضَ الصحابة، لكن لم يلقَ أحداً منهم، فهو من كبار أتباع التابعين، ولهم شيخ آخر يقال له: سيار، لكنه تابعي شامي، أخرج له الترمذي، وذكره ابن حبان في ((الثقات)).
          وقد روي معنى حديث الباب عن أبي أمامة، ولم ينسب في الرواية كما لم ينسب سيار هذا في هذا الحديث، وربما لم يميِّز بينهما مَن لا وقوف له في ذلك، فيتوهم أن في الإسناد اختلافاً، وليس كذلك.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ) من الزيادة <هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ> كما زِيْدَ في رواية (الْفَقِيرُ) ضد الغني، أبو عثمان الكوفي أحد مشايخ الإمام أبي حنيفة، وقيل له: الفقير ؛ لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيراً من المال.
          وفي ((المحكم)): رجل فقير: مكسور فقار ظهره، ويقال له: الفقِّير بالتشديد أيضاً.
          (قَالَ: أَخْبَرَنَا) وفي رواية: <حدثنا> (جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الأنصاري ☺، وقد تقدم في «الوحي» [خ¦4]، ورجال هذا الإسناد ما بين بصري وواسطي وبغدادي وكوفي، وقد أخرج متنه المؤلِّف في «الصلاة» [خ¦438]، وفي «الخمس» أيضاً [خ¦3122]، وأخرجه مسلم في الصلاة، والنسائي في «الطهارة» بتمامه، وفي «الصلاة» ببعضه.
          (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ) بيَّن في رواية عمرو بن شعيب أن ذلك كان في غزوة تبوك وهي آخر غزوات رسول الله صلعم (أُعْطِيتُ خَمْساً) أي: خمس خصال (لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي) ظاهره: أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك. /
          ولا يعترض بأن نوحاً ◙ كان مبعوثاً إلى أهل الأرض بعد الطوفان ؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمناً معه، وقد كان مرسلاً إليهم ؛ لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلعم ؛ فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
          وأما قول أهل الموقف لنوح ◙ كما صح في حديث الشفاعة: ((أنت أول رسول إلى أهل الأرض)) فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح ◙ كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
          واستدل بعضهم لعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثاً إليهم لما أهلكوا لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، وقد ثبت أنه أول الرسل.
          وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح ◙، وعلم نوح ◙ بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على مَنْ لم يؤمن من قومه وغيرهم، وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح ◙ غيره.
          ويحتمل أن يكون دعاء قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العقاب، وإلى هذا نحى ابن عطية في تفسير سورة هود قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته.
          ويحتمل أن تكون معنى الخصوصية لنبينا صلعم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده، فينسخ شريعته.
          وقال القشيري: (توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عاماً في حقِّ بَعْضِ الأنبياء ‰ وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاماً ؛ لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازماً لهم لم يقاتلهم).
          وقال الحافظ العسقلاني: (ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، فبعثته خاصة ؛ لكونها إلى قومه فقط ؛ لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثاً إليهم).
          وقال محمود العيني: (وعندي جواب آخر وهو أن الطوفان لم يرسل إلا على قومه الذين هو فيهم). انتهى.
          وقال الداودي: معنى قوله: لم يعطهن أحد غيري لم يجتمع / لأحد قبله ؛ لأن نوحاً ◙ بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يُعْطَ أحدٌ واحدةً منهن. انتهى.
          وكأنه نظر في أول الحديث وغفل عن آخره ؛ لأنه نص صلعم على خصوصيته بهذه أيضاً لقوله: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وفي رواية مسلم: ((وكان كل نبي...إلى آخره)).
          (نُصِرْتُ) على صيغة المجهول (بِالرُّعْبِ) وزاد أبو أمامة: ((يقذف في قلوب أعدائي)) أخرجه أحمد، وهو بضم الراء وسكون العين: الخوف، وقرأ ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين (1)، يقال: رَعَبْت الرجلَ أرعبه رعباً ؛ أي: ملأته خوفاً، ولا يقال: أرعبته، كذا ذكره أبو المعالي وحُكِيَ عن ابن طلحة: أَرْعَبتُه ورعَبْتُه فهو مُرْعَب ومرعُوب، وفي ((المحكم)): فهو رَعِيْب، ورعَّبه تَرعيباً وتَرعاباً فرعَبَ وفي ((الجامع)) للقزاز: رعَبته فأنا راعب، ويقال: رُعِبَ فهو مرعوب، والاسم الرُّعب بالضم.
          وفي ((الموعب)) لابن التِّيانيِّ: رجل رَعِبٌ ومُرْتعب وقد رُعِب ورَعُب.
          (مَسِيرَةَ شَهْرٍ) وفي رواية السائب، وسيجيء إن شاء الله تعالى: ((ونصرت بالرعب شهراً أمامي، وشهراً خلفي)) جعل الغاية شهراً ؛ لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه. وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؛ أيضاً فيه احتمال.
          ومفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: ((ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر)) فالظاهر منه اختصاصه به مطلقاً.
          (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ) كلها (مَسْجِداً) أي: موضع سجود، وهو موضع الجبهة على الأرض، لا يختص السجود منها بموضع دون موضع، ويمكن أن يكون المراد من المسجد ؛ المسجد المعروف الذي يصلي فيه القوم، فإنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك، فأطلق عليها اسمه حقيقة عرفية أو مجازاً.
          والظاهر أن الخصوصية هي كون الأرض محلاً لإيقاع الصلاة بجملتها لا لإيقاع السجود فقط، فإنه لم ينقل عن الأمم الماضية أنها كانت تخص السجود بموضع دون موضع، كذا في ((المصابيح)).
          (وَ) جعلت لي الأرض (طَهُوراً) بفتح الطاء على المشهور، استدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره ؛ لأنه لو كان المراد به الطاهر لم يثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها.
          وقد روى ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس ☺ مرفوعاً: ((جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً)) ومعنى طيبة: طاهرة، فلو كان معنى طهوراً للزم تحصيل الحاصل.
          قال ابن التين: قيل: المراد: جعلت لي الأرض / مسجداً وطهوراً، وجعلت لغيري مسجداً ولم تجعل طهوراً ؛ لأن عيسى ◙ كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداودي، وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون فيه الطهارة بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض إلا فيما تيقنوا نجاسته.
          وقال القاضي عياض والخطابي: إن من كان قبله من الأنبياء ╫ إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة كالبِيَعِ والصَّوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: ((وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم)) وهذا نص في موضع النزاع، فتثبت الخصوصية.
          ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس ☻ نحو حديث الباب، وفيه: ((ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه))، ثمَّ عموم ذكر الأرض في حديث الباب مخصوص بما نهى الشارع عن الصلاة فيه. ففي حديث أبي سعيد الخدري ☺ مرفوعاً: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)) رواه أبو داود. وقال الترمذي: مضطرب، وكذا ضعفه غيره، وفي حديث ابن عمر عند الترمذي وابن ماجه: ((نهى النبي صلعم أن يصلى على سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله))، قال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي.
          ثمَّ هذه الخصوصية لأمته من بعده أيضاً كما صرح في رواية أبي أمامة بقوله: ((وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً)).
          ويشهد لذلك أيضاً قوله: (فَأَيُّمَا رَجُلٍ) فقوله: (أي) مبتدأ مضاف إلى رجل وما كلمة زيدت لزيادة التعميم.
          وقوله: (مِنْ أُمَّتِي) صفة رجل ؛ أي: كائن من أمتي (أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ) جملة في موضع جر صفة رجل أيضاً، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا تراباً، ووجد شيئاً من أجزاء الأرض فإنه يتيمم به، ولا يقال: هو خاص بالصلاة ؛ لأنا نقول لفظ حديث جابر مختصر.
          وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: ((فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة فلم يجدْ ماءً وَجَدَ الأرض طهوراً ومسجداً))، وعند أحمد: ((فعنده طهوره ومسجده)).
          (فَلْيُصَلِّ) أي: بعد أن تيمم به، كما عرف مما تقدم حيث أدركته الصلاة، وقيل: معناه: فليتيمم وليصل ؛ ليناسب الأمرين المسجد والطهور، فافهم وهو خبر المبتدأ والفاء فيه لكون المبتدأ متضمناً لمعنى الشرط.
          (وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ) وفي رواية: <المغانم> / والغنائم: جمع غنيمة، وهي مال حصل من الكفار بإيجاف خيل وركاب، والمغانم جمع: مغنم، قال الجوهري: الغنيمة والمغنم بمعنى واحد.
          (وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي) لأن من قبله على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد أصلاً، فلم يكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد أنه خُصَّ بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء، والأول أصوب، وسيأتي بسط الكلام في ذلك في الجهاد.
          (وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ) هي سؤال فعل الخير وترك الضرر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة.
          وذكر الأزهري في ((تهذيبه)) عن المبرد وثعلب: أن الشفاعة الدعاء، والشفاعة كلام الشفيع للملك عند حاجة يسألها، وعن أبي الهيثم أنه قال: من يشفع شفاعة حسنة ؛ أي: من يزداد عملاً إلى عمل.
          وفي ((الجامع)): الشفاعة: الطلب، وشفعت لفلان: إذا كان متوسلاً بك، فشفعت له وأنت شافع له وشفيع له.
          هذا، وقال ابن دقيق العيد: الأقرب: أنَّ اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وبذا جزم النووي وغيره.
          وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يُرَدُّ فيما يُسأل، وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار ؛ لأن شفاعة غيره تنفع من في قلبه أكثر من ذلك، كما قاله القاضي عياض.
          والظاهر أن هذه مُرادةٌ مع الأولى ؛ لأنها تتبعها، كما سيأتي واضحاً في حديث الشفاعة، في كتاب التوحيد [خ¦7510] إن شاء الله تعالى.
          وقال البيهقي في ((الشعب)): يحتمل أن تكون الشفاعة التي اختص بها الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر، وأما غيره فيشفع لأهل الصغائر دون الكبائر، وقد وقع في حديث ابن عباس ☻ : ((وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً))، وفي حديث عمرو بن شعيب: ((فهي لكم، ولمن شهد أن لا إله إلا الله)).
          والظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل صالح إلا التوحيد، وهو مندرج أيضاً في الشفاعة العظمى، وقد ثبت في رواية الحسن، عن أنس ☺ كما سيأتي في كتاب التوحيد [خ¦7510]: ((ثمَّ أرجع إلى ربي في الرابعة فأقول: يا رب ائذن لي / فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله)).
          ولا يعكر على ذلك ما وقع عند مسلم قبل قوله: ((وعزتي)) فيقول: «ليس ذاك لك وعزتي...إلى آخره» ؛ لأن المراد أنه لا يباشر الإخراج لا أنه لا يحصل بشفاعته.
          وقيل: المراد الشفاعة في قوم استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم، وقيل: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وقيل: في رفع الدرجات في الجنة، والله أعلم.
          (وَكَانَ النَّبِيُّ) غيري (يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ) المبعوث إليهم (وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً) قومي وغيرهم من العرب والعجم، ووقع في رواية مسلم: ((وبعثت إلى كل أحمر وأسود)) فقيل: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ؛ لأنه مرسل إلى الجميع.
          وأصرح الروايات في ذلك وأشملها رواية أبي هريرة عند مسلم: ((وأرسلت إلى الخلق كافة)) وهي مؤيدة لمن ذهب إلى إرساله صلعم إلى الملائكة أيضاً كما هو ظاهر آية الفرقان ؛ ليكون للعالمين نذيراً.
          هذا وقد وقع عند مسلم في حديث أبي هريرة ☺: ((فضلت على الأنبياء بستٍّ)) فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما قوله صلعم : ((أعطيت جوامع الكلم، وختم بي النبيون)) فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال.
          وعند مسلم أيضاً من حديث حذيفة ☺: ((فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وتربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)).
          وذكر خصلة أخرى، وهذه الخصلة المبهمة بيَّنها ابن خزيمة والنسائي وهي: ((وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يُعْطَ منه أحدٌ قبلي، ولا يُعطى منه أحدٌ بعدي)) يشير إلى ما حطَّه الله تعالى عن أمته من الإِصْر وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعاً.
          وعند أحمد من حديث علي ☺: ((أعطيت أربعاً لم يعطهن أحد من أنبياء الله أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد وجعلت أمتي خير الأمم)) وذكر خصلة التراب فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة.
          وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة ☺ رفعه: ((فضلت على الأنبياء بست / غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه)) وذكر ثنتين مما تقدم.
          وله من حديث ابن عباس ☻ رفعه: ((فضلت على الأنبياء بخصلتين كان شيطاني كافراً فأعانني الله فأسلم))، قال: ونسيت الأخرى.
          وفي حديث السائب (2) ابن أخت النمر: ((فضلت على الأنبياء ‰ أرسلت إلى الناس كافة، وادخرت شفاعتي لأمتي، ونصرت بالرعب شهراً أمامي وشهراً خلفي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم)) وإذا تأملت ما ذكر وجدت الخصال المذكورة سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.
          وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب ((شرف المصطفى)): أن عدد الذي اختص به نبينا صلعم من بين سائر الأنبياء ‰ ستون خصلة، ومن رام التفصيل في ذلك فعليه بـ((المواهب اللدنية)) للقسطلاني ☼ .
          ثمَّ إنه لا تعارض بين هذه الروايات ؛ لأن التنصيص على الشيء بعدد لا يدل على نفي ما عداه، فإن من عنده ثلاثون درهماً صدق أن يقول: عندي عشرون، أو عشرة، ويجوز أن يكون الرب سبحانه وتعالى أعلمه بثلاث ثمَّ بخمس ثمَّ بست.
          ومن فوائد هذا الحديث: ما قاله ابن بطال: إنَّ الحجة تلزم بالخبر كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن المعجزة باقية مساعدة للخبر مُبَيِّنَةٌ له، رافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهي القرآن الباقي، وخص الله سبحانه نبيه صلعم ببقاء معجزته لبقاء دعوته، ووجوب قبولها على من بلغته إلى آخر الزمان.
          ومنها: ما خصَّه الله به من الشفاعة، وهو أنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شفع فيه كما ورد: ((قل تسمع اشفع تشفع))، ولم يُعْطَ ذلك مَن قبله من الأنبياء ‰.
          ومنها: جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض إذا عدم الماء وخاف فوت الصلاة سواء كان مسافراً أو حاضراً لقوله صلعم : ((فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)) إذ قد تدركه الصلاة في موضع من الأرض لا تراب عليها، بل رمل أو جص، أو غيرهما. قال النووي: احتج به مالك وأبو حنيفة في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض، وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز.
          وعند مالك: / يجوز بالتراب وبالرمل وبالحشيش والشجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر.
          وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الثلج والجَمْد، ونقل النقاش عن ابن عُلية وابن كيسان جوازه بالمِسْك والزَّعفران، وعن إسحاق منعه بالسَّاج، ويجوز عندنا بالتراب والرَّمل والحجر الأملس المغسول، والجصّ والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا، والطين الأحمر والأسود والأبيض، والحائط المطين والمجصص والياقوت والزبرجد والزمرد والبَلْخَش والفيروزج والمرجان والأرض الندية والطين الرطب.
          وفي ((البدائع)): يجوز بالثلج الجبلي، وفي قاضيخان: لا يصح على الأصح، ولا يجوز بالزجاج، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية، وشرط الكرخي: أن يكون مدقوقاً.
          وفي ((المحيط)): يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب إذا كان التراب غالباً، وبالخزف إذا كان من طين خالص.
          وفي المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد والنحاس وشبهها ما دام على الأرض.
          وذكر الشاشي: لا يجوز التيمم بتراب خالطه دقيق أو جص، وحكي وجه آخر: أنه يجوز إذا كان التراب غالباً، ولا يصح التيمم بتراب يستعمل في التيمم.
          وعند أبي حنيفة: يجوز، وهو وجه لبعض أصحابنا، ومذهب الشافعي وأحمد: أنه لا يجوز إلا بالتراب احتجاجاً بحديث حذيفة ☺ عند مسلم: ((وجعلت لنا الأرض كلُّها مسجداً، وجعلت تربتُها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء)) قالا: وهو خاص، فيحمل العام عليه فتختصُّ الطهورّيةُ بالتراب، وأجيب عنه: بقول الأَصيلي: أنه تفرد أبو مالك بهذه اللفظة.
          وقال القرطبي: ولا يظن أن ذلك مخصص له، فإن التخصيص إخراج ما يتناوله العموم عن الحكم، ولم يخرج هذا الخبر شيئاً، وإنما عين واحداً مما يتناوله الاسم الأول مع موافقته في الحكم، وصار بمثابة قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:285]، فعين ما يتناوله اللفظ الأول مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف، ولذلك ذكر التربة في حديث حذيفة ☺. وقيل: الاستدلالُ بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب ممنوع ؛ لأن تربة كل مكان ما فيه من تراب وغيره، وأجيب: بأنه ورد في الحديث المذكور لفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة / وغيره، وفي حديث علي: ((وجعل التراب لي طهوراً))، أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن.
          والجواب عنه: ما ذكر الآن، على أن تعيين لفظ التراب في الحديث المذكور ؛ لكونه أمكن وأغلب، لا لكونه مخصوصاً به على أنا نقول: التمسك باسم الصعيد وهو وجه الأرض، وليس باسم للتراب فقط، بل هو وجه الأرض تراباً كان، أو صخراً لا تراب عليه.
          ومنها: مشروعية تعديد نعم الله وإلقاء العلم قبل السؤال، وأن الأصل في الأرض الطهارة، وأن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك، وأما حديث: ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) فضعيف، أخرجه الدارقطني من حديث جابر.
          واستدل به صاحب ((المبسوط)) من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي قال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كلاً منهما طهور، ففي ذلك إظهار كرامته، والله أعلم.


[1] ((من قوله: الراء... إلى قوله: بضم العين)): ليس في (خ).
[2] في هامش الأصل: والسائب ابن أخت النمر هو ابن يزيد بن سعيد المعروف بابن أخت النمر، قيل: إنه ليثي كناني وقيل: أزدي، وقيل: كندي حليف بني أمية ولد في السنة الثانية وخرج في الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى النبي صلعم مقدمه من تبوك وشهد حجة الوداع وذهبت به خالته وهو وجع إلى النبي صلعم فدعا له ومسح برأسه، وقال: نظرت إلى خاتم النبوة. منه.