نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر

          334- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنيِّسي (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ☺ (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم ) ورضي عنها، ورواة هذا الإسناد كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري، وقد أخرج متنه المؤلِّف في النكاح [خ¦5164]، وفي فضل أبي بكر ☺ [خ¦3672]، وفي التفسير [خ¦4607]، والمحاربين أيضاً [خ¦6844]، وأخرجه مسلم في الطهارة، والنسائي فيه، وفي التفسير أيضاً.
          (قَالَتْ) أي: إنها قالت (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ) وفي رواية: <مع النبي> ( صلعم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ). /
          قال ابن عبد البر في ((التمهيد)): يقال: إنَّه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في كتابه ((الاستذكار))، وورد ذلك عن ابن سعد وابن حبان، وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الإفك، قال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: فانقطع عقد لها من جَزْع ظفار، فحبسَ الناسَ ابتغاؤُه.
          وقال ابن سعد: خرج رسول الله صلعم إلى المريسيع يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس، ورجحه أبو عبد الله في ((الإكليل)).
          وقال البخاري عن ابن إسحاق: سنة ست، وقال عن موسى بن عقبة: سنة أربع.
          وزعم ابن الجوزي: (أن ابن حبيب قال: سقط عقدها في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق قصة الإفك).
          قال محمود العيني: يعارض هذا ما رواه الطبراني أن الإفك قبل التيمم، قال: حدثنا القاسم بن حماد: حدَّثنا محمد بن حميد الرازي: حدَّثنا سلمة بن الفضل، وإبراهيم بن المختار، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة ♦ قالت: «لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلعم في غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدي، حتى حُبِسَ الناسُ علي التماسه، وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر ما شاء الله، وقال: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء، ليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنكِ ما علمت لمباركة»، وإسناده حسن. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال، ثمَّ إن بعض المتأخرين استبعد سقوط العِقد في المريسيع، قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قُديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر ؛ لقولها في الحديث:
          (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ) وهما بين المدينة وخيبر كما جزم به النووي، وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التِّين، فإنه قال: البيداء: هي ذو الحُلَيفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، قال: وذات الجيش وراء ذي الحليفة.
          وقال أبو عبيد البكري في ((معجمه)): البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثمَّ ساق حديث عائشة ♦، ثمَّ ساق حديث ابن عمر ☻ قال: «بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها، ما أهلَّ رسولُ الله صلعم إلا من عند المسجد»، الحديث.
          قال: والبيداء: هو الشرف الذي قُدَّام ذي الحليفة في طريق مكة، وقال أيضاً: ذات الجيش من المدينة على بريد، قال: وبينها وبين / العقيق سبعة أميال، والعقيق: من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قال ابن التين.
          ويؤيده أيضاً: ما رواه الحميدي في ((مسنده)) عن سفيان قال: حدَّثنا هشام بن عروة، عن أبيه في هذا الحديث فقال فيه: إن القلادة سقطت ليلة الأبواء. انتهى.
          والأبواء: بين مكة والمدينة، وفي رواية علي بن مسهر في هذا الحديث عن هشام قال: وكان ذلك المكان يقال له: الصُّلْصُل، رواه أبو جعفر الفريابي في كتاب الطهارة له، وابن عبد البر من طريقه.
          والصُّلْصُل: بصادين مهملتين ولامين أولاهما ساكنة.
          قال البكري: هو جبل عند ذي الحليفة، كذا ذكره في حرف الصاد المهملة، ووهم مُغلطاي (1) في فهم كلامه ؛ فزعم أنه ضبطه بالضاد المعجمة، وقلَّده في ذلك بعض الشراح وتصرف فيه، فزاده وهماً على وهم، وعرف من تظافر هذه الروايات تصويب ما قاله ابن التين، واعتمد بعضهم في تعدد السفر على رواية للطبراني صريحة في ذلك، والله أعلم.
          وكلمة: ((أو)) في قولها: أو بذات الجيش للشك من عائشة ♦.
          (انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي) بكسر العين وسكون القاف ؛ أي: قلادة لي، وهو كل ما يعقد ويعلق في العنق، وذكر السفاقسي: أن ثمنه كان يسيراً، وقيل: كان ثمنه اثني عشر درهماً، ووقع في التفسير من [خ¦4608] رواية عمرو بن الحارث: «سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلعم ونزل»، وهذا مشعرٌ بأن ذلك كان عند قربهم من المدينة.
          (فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم عَلَى الْتِمَاسِهِ) أي: لأجل طلبه، وسيأتي أن المبعوث في طلبه أسيد بن حضير وغيره (وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء) كذا في رواية الأكثرين، وسقطت الجملة الثانية وهي قولها: <وليس معهم ماء> عند أبي ذر هنا.
          (فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) ☺ (فَقَالُوا) له (أَلاَ) بهمزة الاستفهام، وعند الحمُّوي بإسقاطها (2) (تَرَى إِلَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ) ♦ (أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلعم وَالنَّاسِ) بالجر عطفاً على رسول الله صلعم / (وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ) أسند الفعل إليها ؛ لأنه كان بسببها.
          (فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ) ☺ (وَرَسُولُ اللَّهِ صلعم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي) بالذال المعجمة (قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلعم وَ) حبست (النَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ) ♦ (فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ) فقال: حبستِ الناس في قلادة ؛ أي: لأجلها كما وقع في رواية عمرو بن الحارث، وفي كل مرة تكونين عَناء كما في رواية الطبراني، وإنما لم تقل عائشة ♦ فعاتبني أبي فسمَّته باسمه ؛ لأن قضية الأبوة الحنو والشفقة، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل لما كان مغايراً لذلك أنزلته منزلة الأجنبي، فلم تقل أبي.
          (وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي) بضم العين، وكذلك جميع ما هو حسي كالطعن بالرمح، وأما المعنوي كالطعن في النسب فيقال فيه: يطعَن بالفتح، هذا هو المشهور فيهما، وحكي الفتح فيهما معاً، كذا في ((المطالع))، وحكى صاحب ((الجامع)) الضم فيهما.
          (بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي) وهي الشاكلة (فَلاَ يَمْنَعُنِي) وفي رواية: <فما يمنعني> (مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلعم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم حِينَ أَصْبَحَ) أي: دخل في الصباح.
          وعند المؤلِّف في «فضل أبي بكر ☺» [خ¦3672]: ((فنام حتى الصبح))، والمعنى فيهما متقاربان ؛ لأن كلاً منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح، ويقال: ليس المراد بقوله: حتى أصبح بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح ؛ لأنه قيد قوله: حتى أصبح بقوله:
          (عَلَى غَيْرِ مَاءٍ) أي: آل أمره إلى أن أصبح على غير ماء ؛ لأن إثبات الفعل على وصف أو حال دون الإثبات المطلق، وهو متعلق بقام وأصبح على سبيل التنازع (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) ╡ (آيَةَ التَّيَمُّمِ).
          قال ابن العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء ؛ لأنا لا نعلم أيَّة الآيتين عَنَت عائشة ♦، وقال ابن بطال: هي آية النساء، أو آية المائدة.
          وقال القرطبي: هي آية النساء، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وليس في آية النساء ذكر الوضوء، فيتجه تخصيصها / بآية التيمم.
          وأورد الواحدي في ((أسباب النزول)) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً.
          وقال السفاقسي كلاماً طويلاً ملخصه: أن الوضوء كان لازماً لهم، وآية التيمم إما المائدة وإما النساء، وهما مدنيتان، ولم تكن صلاة قبل إلا بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء ؛ لكونه متقدماً متلواً ؛ لأن حكم التيمم هو الطارئ على الوضوء، وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولاً أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثمَّ نزل عند هذه الواقعة آية التيمم، وهي تمام الآية، يعني قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة:6] الآية.
          ويحتمل أن يكون الوضوء بالسنة لا بالقرآن، ثمَّ أنزلا معاً، فعبَّرت عائشة ♦ بالتيمم، أو كان هو المقصود.
          وقال محمود العيني: (لو وقف هؤلاء على ما ذكره أبو بكر الحميدي في ((جمعه)) في حديث عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ♦، فذكر الحديث، وفيه فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] لما احتاجوا إلى هذا التَّخرَصُّ).
          ({فَتَيَمَّمُوا}) يحتمل أن يكون بلفظ الماضي؛ أي: فتيمم الناس بعد نزول الآية، ويحتمل أن يكون بلفظ الأمر حكاية لبعض الآية بياناً لقوله: آية التيمم أو بدلاً ؛ أي: أنزل الله: {فَتَيَمَّمُوا}.
          (فَقَالَ) وفي رواية: <قال> (أُسَيْدُ) بضم الهمزة وفتح المهملة مصغر أسد (بْنُ الْحُضَيْرِ) بضم المهملة وفتح المعجمة وبالألف واللام للمح الوصفية، الأوسي الأنصاري الأشهلي، أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العقبة الثانية، مات بالمدينة سنة عشرين، وحمل عمر ☺ جنازته مع من حمل، وصلى عليه، ودُفِنَ بالبقيع، وإنما قال ما قال دون غيره ؛ لأنه كان رأس المبعوثين في طلب العِقْد الذي ضاع.
          (مَا هِيَ) أي: البركة التي حصلت للمسلمين برخصة التيمم (بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ) أي: كثرة خيركم (يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ) بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، والمراد بآل أبي بكر نفسه وأهله وأتباعه، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أن قوله (هي) ترجع إلى البركة، وإن لم يمض ذكرها، وفي رواية عمرو بن الحارث: (لقد بارك الله للناس فيكم).
          وفي ((تفسير)) إسحاق البستي: من طريق ابن أبي مُليكة عنها: أن النبي صلعم قال لها: ((ما كان أعظم بركة قلادتك))، وفي رواية هشام بن عروة الآتية في الباب الذي يليه: ((فوالله ما نزل بكِ أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه خيراً))، / وفي النكاح من هذا الوجه: ((إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين منه بركة)).
          وهذا يشعر أن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوَّي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق.
          وقد اختلف أهل المغازي في أيِّ هاتين الغزاتين كانت أولاً فقال الداودي: كانت قصة التيمم في غزوة الفتح، ثمَّ تردد في ذلك.
          وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة ☺ قال: «لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع»، الحديث، فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق ؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف.
          وسيأتي في المغازي إن شاء الله تعالى: أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعري ☺، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة، ومما يدل على تأخر القصة أيضاً عن قصة الإفك: ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، وقد تقدم ذكره عن قريب.
          (قَالَت) عائشة ♦ (فَبَعَثْنَا) أي: أَثَرْنا (الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ) راكبة (عَلَيْهِ) حالة السير مع أسيد بن حضير (فَأَصَبْنَا) وفي رواية: <فوجدنا> (الْعِقْدَ تَحْتَهُ) وهذا ظاهر في أن الذين توجهوا في طلبه أولاً لم يجدوه، وفي رواية عروة في الباب الذي يليه [خ¦336]: ((فبعث رسول الله صلعم رجلاً فوجدها)) أي: القِلادة، وللمؤلف في فضل عائشة من هذا الوجه [خ¦3773]، وكذا لمسلم: ((فبعث ناساً من أصحابه في طلبها))، ولأبي داود: ((فبعث أسيد بن حضير وناساً معه)).
          وطريق الجمع بين هذه الروايات: أن أسيداً كان رأسَ من بُعِثَ لذلك، كما ذُكِرَ أولاً، فلذلك سُمِّي في بعضِ الروايات دون غيره، وكذا أسند الفعل إلى واحد مُبْهم وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أولاً، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم وأرادوا الرحيل، وأثاروا البعير وَجَدَه أُسيدُ بنُ حضير، فعلى هذا، فقوله في رواية عروة الآتية: «فوجدها»؛ أي: بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره.
          وقال النووي: يحتمل أن يكون فاعل (وجدها) هو النبي صلعم ، / وقد بالغ الداودي في توهيم رواية عروة.
          ونقل عن إسماعيل القاضي أنه حمل الوهم فيها على عبد الله بن نمير، وقد بان بما ذكر من الجمع بين الروايتين أن لا تخالف بينهما ولا وهم، وفي الحديثين اختلاف آخر، وهو قول عائشة: «انقطع عقد لي»، وقالت في رواية عمرو بن الحارث: «سقطت قلادة لي»، وفي رواية عروة الآتية عنها: «أنها استعارت قلادة من أسماء _تعني أختها_ فهلكت»؛ أي: ضاعت.
          والجمع بينهما: أن إضافة القلادة إلى عائشة ؛ لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء؛ لكونها ملكها لتصريح عائشة في رواية عروة بأنها استعارتها منها، وهذا كله بناء على اتحاد القصة.
          وقد جنح المؤلِّف ☼ في التفسير إلى تعدُّدِها؛ حيث أورد حديث الباب في تفسير المائدة، وحديث عروة في تفسير النساء: فكان نزول آية المائدة بسبب عقد عائشة، وآية النساء بسبب قلادة أسماء، وما تقدم من اتحاد القصة أظهر.
          فائدة: وقع في رواية عمار عند أبي داود وغيره في هذه القصة: أن العِقْد المذكور كان من جَزْع ظَفار، وكذا وقع في قصة الإفك كما سيأتي في موضعه. والجَزْع: بفتح الجيم وسكون الزاي خرز يمني، وظفار مدينة تقدم ذكرها في باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض.
          وفي الحديث فوائد: منها: جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه، وسلوك الطريق الذي لا ماء فيها كما قيل، وفيه نظر ؛ لأن المدينة كانت قريبة منهم وهم على قصد دخولها، ويحتمل أن النبي صلعم لم يعلم بعدم الماء مع الركب، وإن كان قد علم بأن المكان لا ماء فيه، ويحتمل أن يكون معنى قوله: ليس معهم ماء؛ أي: للوضوء، وأما ما يحتاجون إليه للشرب، فيحتمل أن يكون كان معهم.
          ومنها: شكوى المرأة إلى أبيها وإن كان لها زوج، وإنما شكوا إلى أبي بكر ☺ ؛ لكون النبي صلعم كان نائماً، وكانوا لا يوقظونه، كذا قالوا، ويجوز أن تكون شكواهم إلى أبي بكر ☺ دون النبي صلعم خوفاً على خاطر النبي صلعم من تغيره عليها.
          ومنها: جواز نسبة الفعل إلى من كان سبباً فيه ؛ لقولهم: (ألا ترى ما صنعت)؛ يعني: عائشة، ومنها: جواز دخول الرجل على ابنته وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك، ولم يكن حالة مباشرة، ومنها: جواز تأديب / الرجل ابنته، ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلتحق بذلك تأديب من له تأديبه، ولو لم يأذن له الإمام، ومنها: استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة إذا كان يحصل به التشويش لنائم وكذا لمصلٍّ وقارئ ومشتغل بعلم، ومنها: الاستدلال على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أن التهجد كان واجباً عليه.
          ومنها: أن طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت، لقوله في رواية عمرو بن الحارث: «وحضرت الصلاة فالتمس الماء». ومنها: أن الوضوء كان واجباً عليه قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر ☺ في حق عائشة ♦ ما وقع.
          وقال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلعم لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا معاندٌ أو جاهلٌ.
          فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به؟ فالجواب: أنه لتكون فرضيته ثابتة بالتنزيل، ويحتمل أن تكون أول آية الوضوء نزل قديماً فعملوا به، ثمَّ نزلت بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة، وإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، ويقال: كان الوضوء ثابتاً بالسنة لا بالقرآن أولاً، ثمَّ أنزلا معاً فعبرت عائشة بالتيمم، إذ كان هو المقصود.
          ومنها: وجوب النية في التيمم ؛ لأن معنى تيمموا اقصدوا، وهو قول فقهاء الأَمْصَار إلا الأوزاعي وزفر.
          ومنها: أنه يستوي فيه الصحيح والمريض والمحدث والجنب، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب، وقد كان عمر بن الخطاب ☺ وابن مسعود ☺ يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء لقوله ╡: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]، وقوله تعالى: {وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43].
          وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] / ، ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء للأحاديث الواردة الثابتة في تيمم الجنب.
          ومنها: جواز التيمم في السفر، وهذا أمر مجمع عليه، واختلفوا في الحضر فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء إذا عدم الماء، أو تعذر استعماله لمرض، أو خوف شديد، أو خوف خروج الوقت، قال أبو عمر: هذا كلُّه قولُ أبي حنيفة ومحمد، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف، وبه قال الطبري.
          وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوفِ خروج الوقت.
          وقال الشافعي أيضاً والليث والطبري: إذا عُدِمَ الماءُ في الحضَرِ مع خوف فوت الوقت، الصحيحُ والسقيمُ يتيمم ويُصلي ويُعيد.
          وقال عطاء بن أبي رباح: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء، ولا غير المريض. انتهى قول أبي عمر.
          وقال محمود العيني: قوله: (هذا كلُّه قولُ أبي حنيفة) غير صحيح، فإن عنده لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت.
          ومنها: جواز السفر بالنساء في الغزوات وغيرها عند الأمن عليهن، فإذا كانت لواحد نساء، فله أن يسافر مع أيتهن شاء، ويستحب أن يقرع بينهن فمن خرجت قرعتها أخرجها معه، وعند مالك والشافعي وأحمد: القرعة واجبة، ومنها: جواز اتخاذ النساء الحلي، واستعمال القلادة تجملاً لأزواجهن.
          ومنها: حرمة المال الحلال وإن قلَّ فلا يضيعه، ألا ترى أنَّ العِقْد كان ثمنه اثني عشر درهما. ومنها: جواز حفظ المال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت. ومنها: جواز الاستعارة وجواز السفر بالعارية عند إذن صاحبها. ومنها: جواز وضع الرجل رأسه على فخذ امرأته. ومنها: جواز احتمال المشقة لأجل المصلحة لقول عائشة ♦: «فلا يمنعني من التَّحرُّك إلا مكان رسول الله صلعم ». ومنها: فضيلة عائشة وأبيها ☻ ، وتكرار البركة منهما.


[1] في هامش الأصل: مغلطاي هو صاحب التلويح في الحديث. منه.
[2] ((بهمزة الاستفهام وعند الحموي بإسقاطها)): ليست في (خ).