نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها

          ░10▒ (بابٌ) بالتنوين (هَلْ يَأْخُذُ) أي: الملتقط (اللُّقَطَةَ وَلاَ يَدَعُهَا) حال كونها (تَضِيعُ) بتركه إيَّاها (حَتَّى لاَ يَأْخُذَهَا مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ) كذا هو بحرف «لا» بعد «حتَّى» / في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن شبويه: <حتَّى يأخذها> بدون حرف «لا»، قال الحافظ العسقلانيُّ: وأظنُّ الواو سقطتْ من قبل «حتَّى»، والمعنى: لا يدعها تضيع، ولا يدعها حتَّى يأخذها من لا يستحقُّها.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لا يحتاج إلى هذا؛ لأنَّ المعنى صحيحٌ بدون هذا التَّقدير أيضاً؛ أي: لا يتركها ضائعةً، بحيث تنتهي إلى أخذِ من لا يستحقُّ إيَّاها. وكلمة: «هل»، هنا ليست للاستفهام، بل بمعنى «قد» للتَّحقيق، كما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ} [الإنسان:1] ولهذا لا تحتاج إلى جواب، وأشار بهذه التَّرجمة إلى الرَّد على من كره أخذ اللُّقطة، رُوِي ذلك عن ابنِ عمر وابن عبَّاس ♥ وهو قول عطاء بن أبي رباح.
          وروى ابن القاسم عن مالكٍ: أنَّه كره أخذها والآبق فإن أخذَ ذلك وضاعتْ وأبق من غير تضييعه لم يضمنْ، وكره أحمد أخذها أيضاً، ومن حجَّتهم في ذلك ما رواه الطَّحاوي من حديث أبي مسلمٍ الجَذْميِّ عن الجارود قال: قال رسول الله صلعم : ((ضالَّة المسلم حَرَق النَّار)). وأخرجه النَّسائي بإسنادٍ صحيحٍ، وأخرجه الطَّبراني أيضاً، وأبو مسلم الجَذْمي _بفتح الجيم والذال المعجمة_ نسبة إلى جذيمة عبد القيس، لا يعرف اسمه.
          والجارود هو: ابن المعلَّى العبديُّ، واسمه: بشر، والجارودُ لُقِّب به؛ لأنَّه كان أغار في الجاهليَّة على بكر بن وائل فأصابهم وجرَّدهم، وفد على رسول الله صلعم سنة عشر في وفد عبد القيس، فأسلم وكان نصرانيًّا، ففرح النَّبي صلعم بإسلامه وأكرمه وقرَّبه والضَّالة هي الضَّائعة من كلِّ ما يقتنى من الحيوان وغيره، يُقال: ضلَّ الصَّبي إذا ضاع، وضلَّ عن الطَّريق إذا حار، وقد مرَّ الكلام فيه، وقوله: حَرَق النار _بفتحتين وقد تسكن الراء_ وحرق النَّار لهيبها.
          والمعنى: أنَّ ضالَّة المسلم إذا أخذها إنسانٌ ليتملَّكها أدَّته إلى النَّار، وهذا تشبيهٌ بليغ، هذا وقال الحسن البصريُّ والنَّخعي والثَّوري وأبو حنيفة ومالك والشَّافعي وأحمد في رواية، وأبو يوسف ومحمَّد: لا يحرم أخذ الضَّوال. وعن الشَّافعي في قولٍ وأحمد في رواية: ندب تركها، وعن الشَّافعي في قولٍ: يجب رفعها، وقال ابن حزم: قال أبو حنيفة ومالكٍ: كلا الأمرين مباحٌ، والأفضل أخذها.
          وقال الشَّافعي مرَّة: أخذها أفضل، ومرَّة قال: الورع تركها، وأجاب الطَّحاوي / عن الحديث المذكور: أنَّه صلعم أراد أخذها لغير التَّعريف.
          وقد بيَّن ذلك ما رُوِي عن الجارود أيضاً، أنَّه قال: قد كنَّا أتينا رسول الله صلعم ونحن على إبل عِجَاف، فقلنا: يا رسول الله! إنَّا قد نمرُّ بالجرف فنجدُ إبلاً فنركبها، فقال: ((إنَّ ضالة المسلم حَرَق النَّار))، فكان سؤالهم عن أخذها لأن يركبوها، لا لأن يعرِّفوها فأجابهم بأن قال: ((ضالَّة المسلم حَرَق النَّار)) أي: إنَّ ضالَّة المسلم حكمها أن تحفظَ على صاحبها حتَّى تؤدَّى إلى صاحبها، لا لأن ينتفع بها لركوبٍ، ولا بغير ذلك.
          وفي رواية مسلم من حديث زيد بن خالد ☺: ((من آوى الضَّالة فهو ضالٌّ ما لم يعرِّفها)).