نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها

          ░4▒ (بابٌ) بالتنوين (إِذَا لَمْ يُوجَدْ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا) أي: غنيًّا كان أو فقيراً، وهذا خلاف مذهبِ الجمهور، فإنَّ عندهم إذا كانت العين موجودةً يجب الرَّد، وإن كانت استهلكت يجبُ البدل، ولم يخالفهم في ذلك إلَّا الكرابيسي من أصحاب الشَّافعي وداود بن علي إمام الظَّاهرية، ووافقهما البخاريُّ في ذلك، واحتجُّوا في ذلك بقوله صلعم في حديث الباب: ((فإن جاء صاحبُها وإلَّا فشأنك بها))، وهذا تفويضٌ إلى اختيارهِ.
          واحتجُّوا أيضاً بما رواه سعيد بن منصورٍ في حديث زيد بن خالد عن الدَّراوردي عن ربيعة بلفظ: ((وإلَّا فتصنعُ بها ما تصنع بمالكَ))، ومن حجَّة الجمهور قوله في حديث الباب السَّابق [خ¦2428]: ((وكانت وديعةً عنده))، وقوله أيضاً في رواية بُسر بن سعيد _عند مسلمٍ_ عن زيد بن خالدٍ ☺: ((فاعرفْ عفاصَها ووكاءها ثمَّ كُلْها، / فإن جاء صاحبُها فأدِّها إليه))، فإنَّ ظاهر قوله: ((فإن جاء صاحبها)) إلى آخره بعد قوله: ((كُلْها)) يقتضي وجوب ردِّها بعد أكلِها، فيحمل على ردِّ البدل.
          وقال ابن بطَّال: إذا جاء صاحب اللُّقطة بعد الحول لزم ملتقطها أن يردَّها إليه، وعلى هذا إجماع أئمَّة الفتوى، وزعم بعض من نسب نفسه إلى العلم أنَّها لا تؤدَّى إليه بعد الحول استدلالاً بقوله صلعم : ((فشأنك بها))، قال: فهذا يدلُّ على ملكها، قال: وهذا القول يؤدِّي إلى تناقض السُّنن إذ قال: ((فأدِّها إليه)) انتهى.
          وقال العينيُّ: قوله: ((فأدِّها إليه)) دليلٌ على أنَّه إذا استنفقها أو تلفت عنده بعد التَّملك أنَّه يضمنها لصاحبها إذا جاء. ويدلُّ عليه أيضاً قوله في رواية بسر بن سعيدٍ عن زيد ☺: ((ثمَّ كُلْها فإن جاء صاحبها فأدِّها إليه)) أمره بأدائها بعد الهلاك إذا كان قد تملكها، أمَّا إذا تلفت عنده بغير تفريطٍ منه فإنَّه لا يضمنها لصاحبها إذا جاء؛ لأنَّ يده عليها يد أمانةٍ فصارت كالوديعة.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: ويحتمل أن يكون في الكلام حذفٌ يدلُّ عليه بقيَّة الرِّوايات والتَّقدير: فاعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ كُلْها إن لم يجيء صاحبها، فإن جاء صاحبها فأدِّها إليه.
          هذا فعلى هذا أمكن حمل قول المصنِّف في التَّرجمة: «فهي لمن وجدها»؛ أي: في إباحة التَّصرف فيها حينئذٍ، وأمَّا أمر ضمانها بعد ذلك فهو ساكتٌ عنه.
          هذا وقال النَّووي: إن جاء صاحبها قبل أن يتملَّكها الملتقط أخذها بزوائدها المتَّصلة والمنفصلة، وأمَّا بعد التَّملك فإن لم يجيء صاحبها فهي لمن وجدها، ولا مطالبة عليه في الآخرة، وإن جاء صاحبُها فإن كانت موجودةً بعينها استحقَّها بزوائدها المتَّصلة، ومهما تلف منها لزم الملتقط غرامته للمالك، وهو قول الجمهور، وقال بعض السَّلف: لا يلزمه وهو ظاهر اختيار البخاريِّ، والله أعلم.