نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة

          2399- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو المعروف بالمُسنَدي، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ) عبد الملك بن عمرو، قال: (حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) بضم الفاء وإهمال الحاء، هو: ابن سليمان (عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ) ويُقالُ له: هلال بن أبي هلال أيضاً.
          (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) بفتح المهملة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) يعني: أنا أحقُّ وأولى بالمؤمنين في كلِّ شيء من أمور الدُّنيا والآخرة من أنفسهم، ولهذا أطلق ولم يعيِّن، فيجب عليهم امتثال أوامره والاجتناب عن نواهيه.
          (اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ) قال ابن التِّين عن الدَّاودي: قوله: اقرؤوا إن شئتم، أحسبه من كلام أبي هريرة ☺، ورُدَّ بأنَّه قد روى جابر ☺ أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)) فافهم.
          ({النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]) أي: في كلِّ أمر من أمور الدِّين والدُّنيا، فيجب عليهم أن يكون أحبَّ إليهم من أنفسهِم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقُّه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم / عليها، وأن يبذلونها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ووقاءه إذا لحقت حرب، وأن لا يتَّبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما يصرفهم عنه، ويتَّبعوا كلَّ ما دعاهم إليه رسول الله صلعم وصرفهم عنه؛ لأنَّ كل ما دعاهم إليه فهو إرشاد لهم إلى سبيل النَّجاة والظَّفر بسعادة الدَّارين، وما صرفهم عنه فأخذ بحجزهم؛ لئلَّا يتهافتوا فيما يرمى بهم إلى الشَّقاوة وعذاب النَّار، أو هو أولى بهم وأرأف، وأعطف عليهم وأنفع لهم، كقوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
          وعن ابن عبَّاس ☻ ، وكذا عن عطاء يعني: إذا دعاهم النَّبي صلعم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النَّبي صلعم أولى بهم من طاعة أنفسهم.
          وعن مقاتل: يعني: طاعة النَّبي صلعم أولى من طاعة بعضكم إلى بعض، وقيل: إنه أولى بهم في إمضاء الأحكام، وإقامة الحدود عليهم لِمـَا فيه من مصلحة الخلق والبعد عن الفساد. وقيل: لأنَّ النَّبي صلعم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وأنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وقيل: لأنَّ أنفسهم تحرسهم من نار الدُّنيا، والنَّبي صلعم يحرسهم من نار العقبى.
          (فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ) كلمة ما زائدةٌ (مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً، فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ) العصبة عند أهل الفرائض اسم لمَنْ يرث جميع المال إذا انفرد، أو الفاضل بعد فرض ذوي السِّهام المقدَّرة.
          فإن قيل: قد يستغرق أصحاب الفرائض الجميع فلا يصدق حينئذٍ فليرثه عصبته.
          فالجواب: أنَّ ذا الفرض مقدَّم على العصبة، وقد تطلق العصبة على مطلق الأقارب من حيث إنَّهم معصبون له، وقيل: العصبة قرابة الرَّجل لأبيه، سمُّوا بذلك من قولهم: عصب القوم بفلان؛ أي: أحاطوا به، وهم كل مَنْ يلتقي مع الميِّت في أبٍ أوجدٍ، والمرأة لا تسمَّى عصبة على الإطلاق.
          قال أبو المُعالي: الواحد عاصب قياسٌ غير مسموع، وكذا قاله الأزهري.
          (مَنْ كَانُوا) كلمة مَنْ موصولةٌ، وإنَّما ذكرها لتتناول أنواع العصبة نسباً بنفسه، أو بغيره، أو مع غيره، وسبباً كذلك على ما قُرِّر في موضعه؛ لأنَّ ألفاظ الموصولات عامَّة.
          وقال الِكَرْماني: ويحتمل أن تكون من شرطيَّة، ولم يبيِّن وجه ذلك.
          (وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَوْ ضَيَاعاً) بفتح الضاد المعجمة، مصدر ضاعَ يضيع. قال ابنُ الجوزي: معناه: مَنْ ترك شيئاً ضائعاً كالعيال والأطفال، ورواه بعضهم: ضِياعاً / _بكسر الضاد_ على أنَّه جمع ضائع كجياع وجائع، وأنكره الخطَّابي.
          وقال: الضِّياع في الأصل مصدر، ثمَّ جُعِلَ اسماً لكلِّ ما هو بصدد أن يضيعَ من ولد أو خدم لا قيِّم بأمرهم.
          (فَلْيَأْتِنِي) ذلك الضَّائع (وَأَنَا مَوْلاَهُ) أي: وليَّه.
          ومطابقته للتَّرجمة كمطابقة الحديث السَّابق له.