نجاح القاري لصحيح البخاري

باب أداء الديون

          ░3▒ (بابُ) وجوب (أَدَاءِ الدُّيُونِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ «الديون» بالجمع، وفي رواية غيره: <باب أداء الدين> بالإفراد.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى) وفي نسخة: <وقول الله تعالى> ({إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]) خطابٌ يعمُّ المكلفين والأمانات، وإن نزلت يوم الفتح في عثمان بن طلحة بن عبد الدار الحجبيِّ العبدريِّ سادن الكعبة على قول أكثر المفسِّرين، وذلك أنَّ رسول الله صلعم حين دخل مكَّة يوم الفتح أغلقَ عثمان باب الكعبة، وصعد السَّطح وأبى أن يدفعَ المفتاح إليه وقال: لو علمتُ أنَّه رسول الله صلعم لم أمنعه، فلَوى (1) عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ يده، وأخذه منه ودخل رسول الله صلعم وصلَّى ركعتين فلما خرج سأله العباس ☺ أن يعطيَه المفتاح، ويجمع له السِّقاية والسَّدانة فنزلت، فأمره الله تعالى أن يردَّ إليه، فأمر عليًّا ☺ أن يردَّه إلى عُثمان ويعتذر إليه، فقال عثمان لعليٍّ: أكرهت وآذيت ثمَّ جئت ترفق، فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآناً وقرأ عليه، فقال / عثمان: أشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، فهبط جبريلُ، وأخبر رسول الله صلعم أنَّ السَّدانة في أولاد عثمان أبداً، ذكره ابن سعدٍ وغيره.
          ({وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]) أي: وأن تحكموا بالإنصاف والسَّوية إذا قضيتم بين مَنْ ينفذُ عليه أمركُم، أو يرضى بحكمكم. وقال محمَّد بن كعب وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم وشهر بن حَوشَب: أنَّها نزلت في الولاة يعني: الحكَّام بين الناس؛ لأنَّ الحكم وظيفة الولاة.
          وفي الحديث: «إنَّ الله مع الحاكم ما لم يجر، فإذا جار وكَّله الله إلى نفسه».
          ويقال: نزلتْ في شأن اليهود حيث كتموا نعت محمَّدٍ صلعم كانت أمانةً عندهم فمنعوها ولم يؤدُّوها، كذا في «تفسير الفقيه أبي الليث»، وهو بعيدٌ من سياق الآية.
          وقال عليُّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عبَّاس ☻ إنَّ الآية عامَّةٌ في جميع الأمانات، قالوا: فتعمُّ جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله ╡ على عباده من الصَّلوات، والزكوات (2)، والكفارات، والنُّذور، والصيام وغير ذلك فهو مؤتمنٌ عليه، ومن حقوق العباد بعضُهم على بعض كالودائع والدُّيون وغيرهما ممَّا يُأتمَنون فيه بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى بأدائها فمَنْ لم يفعل ذلك في الدُّنيا أُخِذَ ذلك منه يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصَّحيح أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها حتى يقتصَّ للشَّاة الجمَّاء من القرناء)).
          وقال ابن المُنَيِّر: أدخل البخاريُّ الدين في الأمانة؛ لثبوت الأمر بأدائه، إذ المراد بالأمانةِ في الآية ما هو المرادُ بها في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب:72]، وقد فسِّرت هناك بالأوامر والنَّواهي فيدخل فيها جميع ما يتعلَّق بالذمَّة وما لا يتعلق، انتهى.
          ويُحتَمل أن تكون الأمانة على ظاهرها، وإذا أمر الله بأدائها ومدح فاعله وهي لا تتعلق بالذمَّة فحالُ ما في الذمَّة أولى.
          وروى ابن أبي شيبة من طريق طَلْق بن معاوية قال: كان لي على رجلٍ دينٌ فخاصمتُه إلى شريح فقال: إنَّ الله يأمرك أن تؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وأمر بحبسه، وقيل: ربط المديون إلى سارية، قال شريح: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] إنَّما هذا في الربا خاصَّةً.
          وجمهور الفقهاء على أنَّ الآية عامَّة في الرِّبا وغيره، والله تعالى أعلم.
          ({إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]) أي: نعم شيئاً يعظكم به، / أو نعم الشَّيء الذي يعظُكم به، فما منصوبة موصوفة بيعظكم به، أو مرفوعة موصولة به، والمخصوص بالمدح محذوفٌ وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل والحكومات.
          ({إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58]) بأقوالكم وأحكامكم وما تفعلون في الأمانات، وهما من أوصافِ الذات، وهما صفتان تنكشفُ بهما المسموعاتُ والمبصراتُ انكشافاً تامًّا، ولا يحتاج تعالى فيهما إلى آلة؛ لأنَّ صفاته تعالى مخالفةٌ لصفات المخلوقين بالذَّات.
          ثمَّ إنَّ الآية المذكورة في رواية الأَصِيليِّ وغيره مسوقة بتمامها، وأمَّا في رواية أبي ذرٍّ فكذا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] الآية.


[1] في هامش الأصل: لوى الحبل: فتله. منه.
[2] في (خ): ((الصلاة والزكاة)).