إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة

          6535- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ وابن عساكرَ: ”حَدَّثنا“ (الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بفتح الصاد المهملة وسكون اللام بعدها فوقية، ابن محمَّد بن عبد الرَّحمن الخارَكيُّ _بالخاء المعجمة والراء والكاف_ قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بضم الزاي وفتح الراء مصغَّرًا، أبو معاوية البصريُّ، وقرأ يزيدُ هذه الآية: ({وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}[الحجر:47]) من حقدٍ كان(1) في القلبِ، أي: إن كان لأحدهم في الدُّنيا غلٌّ على آخر نزعَ الله ذلك من قلوبهم وطيَّب نُفوسهم، أي: طهَّر قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدَّرجات في الجنَّة، ونزع منها كلَّ غلٍّ، وألقى فيها التَّوادَّ والتَّحابب، وذكر هذه الآية بين رِجال الإسناد؛ ليبيِّن أنَّ مَتن الحديث كالتَّفسير لها (قَالَ) يزيد بن زُريع: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) بكسر العين، ابنُ أبي عَروبةَ (عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة (عَنْ أَبِي المُتَوَكِّلِ) عليِّ بن داود (النَّاجِيِّ) بالنون وبعد الألف جيم مكسورة، نسبةً إلى بني ناجية بن سامة(2) بن لؤيٍّ، قبيلة (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ) سعد بن مالكٍ (الخُدْرِيَّ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) وعند الإسماعيليِّ من طريق محمَّد بن المنهال، عن يزيدَ بن زُريعٍ، بهذا السَّند إلى أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عن النَّبيِّ صلعم / في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر:47] قال: (يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ) بفتح التَّحتية وضم اللام مِن «يَخْلُص» أي: ينجون من السُّقوط فيها بعدما يجوزون الصِّراط (فَيُحْبَسُونَ(3) عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ) قيل: إنَّها صراطٌ آخر، وقيل: إنَّها من تتمَّة الصِّراط وإنَّها طَرفه الَّذي يلي الجنَّة. قال القرطبيُّ: وهؤلاء المؤمنون هُم الَّذين عَلم الله أنَّ القصاصَ لا يَستَنفد حسناتهم. وقال في «الفتح»: ولعلَّ أصحابَ الأعرافِ منهم على القولِ الرَّاجح، قال: وخرج من هذا صِنفان: مَن دخلَ الجنَّة بغير حسابٍ، ومَن أَوبقه عملُه من الموحِّدين، وأمَّا النَّاجون فقد يكون عليهم تبعات فيخلُصون ولهم حسناتٌ توازيها(4) أو تزيدُ عليها (فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بضم التَّحتية وفتح القاف مِن «يُقَصُّ» مبنيًّا للمفعول، ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: ”فيُقْتَصُّ“ بضم التحتية وسكون القاف(5) وزيادة فوقية مفتوحة بعدها، كذا في الفرع بضم التَّحتية. وقال الحافظُ ابن حجر وتَبعه العينيُّ: بفتحها، فتكون اللَّام على هذه‼ الرِّواية زائدةً، أو الفاعلُ محذوفٌ، وهو الله تعالى، أو مَن أقامه في ذلك، وفي رواية(6) شيبان عن قتادة السَّابقة في «المظالم» [خ¦2440] «فيقتصُّ بعضُهم من بعضٍ»(7) (حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا) بضم الهاء وكسر الذال المعجمة المشددة بعدها موحدة، من التَّهذيب (وَنُقُّوا) بضم النون والقاف المشددة، من التَّنقية، وأصله: نُقِّيوا، استثقلت الضمة على الياء فنُقلت إلى سابقتها بعد حذف حركتها. وقال الجوهريُّ: التَّهذيب كالتَّنقية، ورجلٌ مهذَّبٌ، أي: مُطهَّر الأخلاق، فعلى هذا قوله: «ونقُّوا» تفسير لقوله: «هُذِّبوا» وأَدْخَلَ واو العطف بين المفسِّر والمفسَّر، والمراد: التَّخليص من التَّبعات فإذا خلصوا منها (أُذِنَ لَهُمْ) بضم الهمزة وكسر المعجمة (فِي دُخُولِ الجَنَّةِ) وليس في قلوبِ بعضِهم على بعضٍ غلٌّ، أي: حقدٌ كامنٌ(8) في قلوبهم بل ألقَى الله فيها التَّوادَّ والتَّحابَّ (فَوَ) الله (الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ) بفتح اللام للتَّأكيد، و«أحدٌ» مبتدأٌ خبره قوله: (أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ) الَّذي (كَانَ فِي الدُّنْيَا). قال في «شرح المشكاة» _فيما قرأته فيه_: «هدى» لا يتعدَّى بالباء بل باللَّام وإلى. فالوجه أن يضمَّن معنى اللُّصوق، أي: ألصق بمنزله هاديًا إليه. قال: وفي معناه قوله تعالى: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}[يونس:9] أي: يهديهم في الآخرة بنورِ إيمانهم إلى طريق الجنَّة، فجعل { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} بيانًا له وتفسيرًا؛ لأنَّ التَّمسُّك بسبب السَّعادة كالوصولِ إليها، وأمَّا ما أخرجه عبدُ الله بن المبارك في «الزُّهد» وصحَّحه الحاكم عن عبدِ الله بن سلام: أنَّ الملائكة تدلُّهم على طريق الجنَّة يمينًا وشمالًا. فهو محمولٌ على مَن لم يُحبس بالقنطرةِ، أو على الجميع، والمراد: إنَّ الملائكةَ تقول لهم ذلك قبلَ دخول الجنَّة، فمَن دخل كانت مَعرفته بمنزله فيها كمعرفتهِ بمنزله في الدُّنيا؛ لأنَّ منازلهم تُعرض عليهم غدوًّا وعشيًّا.
          وحديثُ الباب مرَّ في «المظالم» [خ¦2440].


[1] في (د): «كائن».
[2] في (د) و(ع): «أسامة».
[3] في (ع): «فيجلسون».
[4] في (س): «توازنها».
[5] في (د) زيادة: «مبنيًّا للمفعول».
[6] في (د): «ورواية».
[7] لفظ الحديث هناك: «فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم».
[8] في (د): «كائن».