إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار

          555- وبه قال: (حدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ (قَالَ: حدَّثنا) ولأبوي ذَرٍّ والوقت وابن عساكر: ”أخبرنا“ (مَالِكٌ) إمام دار الهجرة، ابن أنسٍ (عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيِّ المدنيِّ (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرَّحمن بن هرمزٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: يَتَعَاقَبُونَ) أي: الملائكة يتعاقبون بأن تأتيَ طائفةٌ عقب الأخرى على باب «المُفاعَلة» (فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ) كذا أخرجه المؤلِّف بهذا اللَّفظ، وأخرجه في «بدء الخلق» [خ¦3223] من طريق شعيب بن أبي حمزة بلفظ: «الملائكة يتعاقبون، ملائكةٌ باللَّيل وملائكةٌ بالنَّهار» وحينئذٍ ففي سياقه هنا إضمار الفاعل، كأنَّ الرَّاوي اختصر المسوق هنا من المذكور في «بدء الخلق»، فـ «ملائكةٌ» المُنكَّر بدلٌ من الضَّمير أو بيانٌ، كأنَّه قِيلَ: من هم؟ فقِيلَ: هم(1) ملائكةٌ، وهذا مذهب سيبويه فيه وفي نظائره، وإلى ذلك ذهب أبو حيَّان والسُّهيليُّ، وناقشه أبو حيَّان بأنَّ هذه الطريق اختصرها الرَّاوي، واحتجَّ بحديث أبي هريرة من وجهٍ آخر عند البزَّار: «إنَّ لله ملائكةً يتعاقبون فيكم، ملائكة باللَّيل، وملائكة بالنَّهار»، وتعقَّبه في «المصابيح» بأنَّها دعوى لا دليل عليها، فلا يُلتفَت إليها. انتهى. فليُتأمَّل مع ما مرَّ. نعم شُوحِحَ في العزوِ إلى «مُسنَد البزَّار» مع كونه في «الصَّحيحين» بهذا اللَّفظ، فالعزو إليهما أَوْلى، وبالجملة فوقع في طرق(2) الحديث ما يدلُّ على أنَّه اختُلِف فيه على أبي الزِّناد، فالظَّاهر أنَّه كان تارةً يذكر(3) هكذا، وتارةً يذكر هكذا، وذلك يقوِّي ما مرَّ أوَّلًا، وحمله ابن مالكٍ وغيره على لغة بني الحارث في: «أكلوني البراغيث»، فـ «الواو» علامة الفاعل المُذكَّر(4) المجموع، وهي لغة فاشيةٌ، ونازعه أبو حيَّان بما مرَّ، و«التَّعاقب»: أن تأتي جماعةٌ عقب أخرى(5)، ثمَّ تعود الأولى عقب الثَّانية، وتنكير «ملائكةٍ» في الموضعين ليفيد أنَّ الثَّانية غير الأولى، كما قِيلَ في قوله تعالى: { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }[الانشراح:5-6]‼: إنَّه استئنافٌ، وَعَدَه تعالى(6) بأنَّ اليسر(7) مشفوعٌ بيسرٍ آخر لقوله(8): «لن يغلب عسرٌ يسرين»، فإنَّ «العسر» مُعرَّفٌ فلا يتعدَّد، وسواءٌ كان للعهد أو للجنس، و«اليسر» مُنكَّرٌ، فيحتمل أن يُراد بالثَّاني فردٌ ما(9) يغاير ما أُريد بالأوَّل، والمراد بـ «الملائكة» الحفظة عند الأكثرين، وتُعقِّب بأنَّه لم يُنقَل أنَّ الحفظة يفارقون العبد، ولا أنَّ حفظة اللَّيل غير حفظة النَّهار (وَيَجْتَمِعُونَ فِي) وقت (صَلَاةِ الفَجْرِ وَ) وقت (صَلَاةِ العَصْرِ) فإن قلت: التَّعاقب يغاير الاجتماع؟ أُجيب بأنَّ تعاقب الصِّنفين لا يمنع اجتماعهما لأنَّ التَّعاقب أعمُّ من أن يكون معه اجتماعٌ(10) كهذا(11)، أوْ لا يكون معه اجتماعٌ كتعاقب الضِّدَّين، أوِ المُراد: حضورهم معهم الصَّلاة في الجماعة، فيُنزَّل على حالين، وتخصيص اجتماعهم في الورود وفي(12) الصُّدور بأوقات العبادة تكرمةً للمؤمنين(13) ولطفًا بهم لتكون شهادتهم بأحسن الثَّناء وأطيب الذِّكر، ولم يجعل اجتماعهم معهم في حال خلواتهم بلذَّاتهم، وانهماكهم على شهواتهم، فللَّه الحمد.
           (ثمَّ يَعْرُجُ) الملائكة (الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ) أيُّها المصلُّون، وذكر / الَّذين باتوا دون الَّذين ظلُّوا إمَّا للاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر نحو: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ }[النحل:81] أي: والبرد، وإمَّا لأنَّ طرفَي النَّهار يُعلَم من طرفَي اللَّيل، وإمَّا لأنَّه استعمل «بات» في «أقام» مجازًا، فلا يختصُّ ذلك بليلٍ دون نهارٍ، ولا نهارٍ دون ليلٍ، فكلُّ طائفةٍ منهم إذا صعدت سُئِلت، ويؤيِّد هذا ما رواه النَّسائيُّ عن موسى بن عقبة عن أبي الزِّناد: «ثمَّ يعرج الَّذين كانوا فيكم»، بل في حديث الأعمش عن أبي(14) صالحٍ عن أبي هريرة عند ابن خزيمة في «صحيحه» مرفوعًا ما يغني عن كثيرٍ من الاحتمالات، ولفظه: «يجتمع ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيجتمعون في صلاة الفجر، فتصعد ملائكة اللَّيل فتبيت(15) ملائكة النَّهار، ويجتمعون في صلاة العصر، فتصعد ملائكة النَّهار وتبيت ملائكة اللَّيل».
           (فَيَسْأَلُهُمْ) تعبُّدًا لهم كما تعبَّدهم بكتب أعمالهم (وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي: بالمصلِّين من الملائكة، فحذف صلة «أَفْعل» التَّفضيل، ولابن عساكر: ”فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم“: (كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) الواو للحال، لكنَّه استُشكِل لأنَّه يلزم منه مفارقتهم قبل أن يشهدوها معهم، والحديث صرَّح بأنَّهم شهدوها معهم، وأُجيب بالحمل على شهودهم لها مع المصلِّي لها أوَّل وقتها، أوشهدوا من دخل فيها ومن شرع في أسبابها بعد ذلك، والمنتظر لها في حكم مصلِّيها، وهذا آخر الجواب عن سؤالهم: «كيف تركتم» ثمَّ زادوا في الجواب لإظهار فضيلة المصلِّين والحرص على ذكر(16) ما يوجب مغفرة ذنوبهم فقالوا: (وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ) ولمَّا كان المراد الإخبار عن صلاتهم _والأعمال بخواتيمها_ حَسُنَ أن يُخبِروا عن آخر أعمالهم قبل أوَّلها.
          ورواة هذا الحديث مدنيُّون إلَّا شيخ المؤلِّف فتنِّيسيٌّ، وفيه: التَّحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلِّف أيضًا في «التَّوحيد» [خ¦7429]، ومسلمٌ في «الصَّلاة» وكذا النَّسائيُّ فيها وفي «البعوث»‼.


[1] «هم»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] في (د) و(م): «طريق».
[3] في غير (د) و(م): «يذكره».
[4] في (ب) و(س): «المذكور».
[5] في غير (د): «الأخرى».
[6] في (د): «وعدةٌ منه تعالى».
[7] في (د): «العسر»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ص) و(م): «كقوله».
[9] «ما»: ليس في (د).
[10] في (ص): «إجماع».
[11] في (ب) و(د) و(م): «هكذا».
[12] «في»: مثبتٌ من (ص).
[13] في غير (ص): «بالمؤمنين».
[14] «أبي»: سقط من جميع النُّسخ.
[15] في غير (د) و(م): «وتثبت»، وكذا في الموضع اللَّاحق.
[16] «ذكر»: ليس في (م).