إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال

          6497- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) العبديُّ البصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا) ولأبي ذرٍّ: ”حَدَّثنا“ (سُفْيَانُ) الثَّوريُّ قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) سليمانُ بن مهرانٍ (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ) الجُهنيِّ، هاجر ففاتتْه رؤية النَّبيِّ صلعم بأيَّامٍ، أنَّه قال: (حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ) بنُ اليمان ☺ (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم حَدِيثَيْنِ) في ذكر نزولِ الأمانة، وفي ذكرِ رفعها (رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا: أَنَّ الأَمَانَةَ) الَّتي هي ضدُّ الخيانة أو هي التَّكاليف (نَزَلَتْ فِي جَـِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ) بفتح الجيم وكسرها وسكون الذال المعجمة الأصل / (ثُمَّ عَلِمُوا) بفتح العين وكسر اللام المخففة، بعد نزولها في أصل قلوبهم (مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) أي: أنَّ(1) الأمانة لهم بحسب الفِطرة، ثمَّ بطريق الكسب من الشَّريعة، والظَّاهر أنَّ المرادَ من الأمانة: التَّكليف الَّذي كلَّف الله تعالى به عبادهُ والعهد الَّذي أخذه عليهم، وقال صاحب «التَّحرير»(2): المرادُ بها هنا: الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا}[الأحزاب:72]. قال في «فتوح الغيب»: شبَّه حالة الإنسان وهي ما كلَّفه من الطَّاعة بحالةٍ معروضة(3) لو عُرضت على السَّموات والأرض والجبال لأبت حَملها وأشفقت منها؛ لعظمها وثِقل محملها(4)، وحملها الإنسان على ضَعفه ورخاوة قوَّته، إنَّه ظلومٌ على نفسه، جاهلٌ بأحوالها، حيث قبل ما لم تُطق حمله هذه الأجرام العِظام، فقوله: «حملها» على حقيقتهِ، والمراد بالأمانة: التَّكليف.
          وروى محيي السُّنَّة: عَرض اللهُ الأمانةَ على أعيانِ السَّموات والأرض والجبال، فقال لهنَّ: أتحملنَ(5) هذه الأمانة بما فيها. قلنا: ما فيها؟ قال: إن أحسنتُنَّ جوزيتُنَّ، وإن عصيتُنَّ عوقبتُنَّ. قلنا: لا(6) يا ربّ، لا نريدُ ثوابًا ولا عقابًا خشيةً وتعظيمًا لدين الله، و(7)كان هذا العرض تخييرًا لا إلزامًا(8).
          أو شُبِّهت هذه الأجرام _حال انقيادها وأنَّها لم تمتنعْ عن(9) مشيئةِ الله وإرادتهِ إيجادًا وتكوينًا وتسويةً بهيئاتٍ مختلفةٍ_ بحال مأمورٍ مُطيعٍ لا يتوقَّف عن(10) الامتثالِ إذا توجَّه إليه أمرُ آمرهِ المُطاع كالأنبياء وأفرادِ المؤمنين، وعلى هذا فمعنى‼: {فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أنَّها بعدما انقادتْ وأطاعتْ ثبتتْ عليها، وأدَّت ما التزمتْ من الأمانةِ وخرجت عن عُهدتها سوى الإنسان، فإنَّه ما وَفَّى بذلك وخان(11)، إنَّه كان ظَلومًا جَهولًا.
          وقال الزَّجَّاج: أعلمنا(12) الله تعالى أنَّه ائتمنَ بني آدمَ على ما افترضَه عليهم من طاعتهِ، وائتمن السَّموات والأرض والجبال على طاعتهِ والخضوع له، فأمَّا هذه الأجرام فأطعنَ الله ولم تحملِ(13) الأمانة، أي: أدَّتها، وكلُّ من خان الأمانةَ فقد احتملها.
          (وَحَدَّثَنَا) صلعم (عَنْ رَفْعِهَا) أي: الأمانة (قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ) بضم الفوقية وفتح الموحدة (مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا) بالرفع (مِثْلَ أَثَرِ الوَكْتِ) بفتح الواو وبعد الكاف الساكنة فوقية، النُّقطة في الشَّيء من غيرِ لونه، أو هو السَّواد اليسير، أو اللَّون المُحدث المخالف للون الَّذي كان قبلَه (ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ) الأمانة (فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ المَجْلِ) بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام، النُّفَّاخات الَّتي تخرج في الأيدِي عند كثرةِ العمل بنحو الفأس (كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ) بكسر الفاء (فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا) بضم الميم وسكون النون وفتح الفوقية وكسر الموحدة، مفتعلًا، أي: مرتفعًا. وقال أبو عبيد: منتبرًا: منقطعًا (وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) والمعنى: أنَّ الأمانةَ تزول عن(14) القلوبِ شيئًا فشيئًا، فإذا زال أوَّل جزءٍ منها زالَ نورها وخلفته ظلمةٌ كالوكتِ، وهو اعتراضُ(15) لونٍ مخالفٍ(16) للَّون الَّذي قبلَه، فإذا زال شيءٌ آخر صار كالمَجْل، وهو أثرٌ محكمٌ لا يكاد يزول إلَّا بعد مدَّةٍ، وهذه الظلمةُ فوق الَّتي قبلَها، وشبَّه زوال ذلك النُّور بعد وقوعهِ في القلب وخروجهِ بعد استقرارهِ فيه واعتقابِ الظُّلمة إيَّاه بجمرٍ يُدَحرجه(17) على رجلهِ حتَّى يُؤثِّر فيها، ثمَّ يزولُ الجمر ويبقى النَّفط(18)، قاله صاحب «التَّحرير»(19). وذَكَر النَّفط اعتبارًا بالعضو، و«ثمَّ» في قوله: «ثمَّ ينام النَّومة» للتَّراخي في الرُّتبة وهي نقيضةُ «ثمَّ» في قوله: «ثمَّ عَلِموا من القرآن ما عَلِموا من السُّنَّة» (فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أحدهم“ (يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ) ذكر الإيمان؛ لأنَّ الأمانة لازمة الإيمان، وليس المراد هنا أنَّ الأمانة هي الإيمان. قال حذيفة: (وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا) ولأبي ذرٍّ: ”ولا“ (أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ) أي: مبايعة البيع والشِّراء (لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عليَّ الإِسْلَامُ) بتشديد ياء «عليَّ» وسقط «عليَّ» لغير أبي ذرٍّ، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”بالإسلام“ (وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ) وإليه الَّذي‼ أُقيم عليه بالأمانة، فيُنصفني منه / ويستخرج حقِّي منه، أو المراد: الَّذي يتولَّى قبض الجزيةَ؛ يعني(20): أنَّه(21) كان يُعامل مَن شاء غير باحثٍ عن حالهِ وثوقًا بأمانته، فإنَّه إن كان مسلمًا فدينُه يمنعُه من الخيانةِ، ويحملُه على أداءِ الأمانة (فَأَمَّا اليَوْمَ) فذهبتِ الأمانةُ فلست أَثق اليوم بأحدٍ أئتمنه (فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا) أي: أفرادًا من النَّاس قلائل، وذكر(22) النَّصرانيَّ على سبيل التَّمثيل، وإلَّا فاليهوديُّ أيضًا كذلك، كما صرَّح بهما في مسلمٍ.
          والحديثُ أخرجهُ بسنده ومَتنه في «كتاب الفتن» [خ¦7086]، وأخرجهُ مسلمٌ في «الإيمان»، وكذا ابن ماجه.
          (قَالَ الفَـِرَبْرِيُّ) محمَّدُ بن يوسف: (قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ) محمَّد بن حاتمٍ ورَّاق المؤلِّف، أي: الَّذي يكتب له كُتبه: (حَدَّثْتُ(23) أَبَا عَبْدِ اللهِ) محمَّد بن إسماعيل البخاريَّ، وحذف ما حدَّثه به؛ لعدم احتياجهِ له إذ ذاك (فَقَالَ) البخاريُّ: (سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عَاصِمٍ) البلخيَّ (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ) بضم العين، هو القاسم بن سلَّامٍ (يَقُولُ: قَالَ الأَصْمَعِيُّ) عبد الملك بن قُرَيْب (وَأَبُو عَمْرٍو) بفتح العين، ابن العلاء القارئ (وَغَيْرُهُمَا) هو سفيان الثَّوريُّ، كما عند الإسماعيليِّ: (جَذْرُ قُلُوبِ الرِّجَالِ، الجَذْرُ: الأَصْلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) كذا فسَّروه لكنَّهم اختلفوا، فعند أبي عَمرٍو بكسر(24) الجيم، وعند الأصمعيِّ بفتحها(25) (وَالوَكْتُ: أَثَرُ الشَّيْءِ اليَسِيرُ مِنْهُ، وَالمَجْلُ: أَثَرُ العَمَلِ فِي الكَفِّ إِذَا غَلُظَ) وهذا كلام أبي عبيد أيضًا(26)، وهذا ثابتٌ في رواية أبي ذرٍّ عن المُستملي وحده.


[1] «أن»: ليس في (د).
[2] صاحب «التحرير» هو محمد بن إسماعيل التميمي (ت 526) وكتابه: «التحرير في شرح صحيح مسلم».
[3] في (ص): «مفروضة».
[4] في (د): «محمله».
[5] في (ص): «تحملن».
[6] «لا»: ليست في (ع).
[7] في (ب) زيادة: «إن».
[8] في (د): «لزومًا».
[9] في (ص): «من».
[10] في (ص): «على».
[11] في (ص) و(ع) زيادة: «به»، وفي (ل): «وخامر به».
[12] في (د): «أعلمها».
[13] في (د) و(ع): «تحتمل».
[14] في (د): «من».
[15] في (ع): «أعراض».
[16] في (ع): «يخالف».
[17] في (ع): «تدحرجه».
[18] في (ع): «التنفط». وكذا في شرح النووي على مسلم والعمدة.
[19] في (ص): «التجريد» وهو تصحيف.
[20] في (د): «بمعنى».
[21] في (ص) زيادة: «إذا».
[22] في (ع): «فذكر».
[23] في (ع): «حدَّثنا».
[24] في (ص): «بفتح».
[25] في (د) و(ص): «بضمِّها».
[26] في (ص): «عبد الله»، وقوله: «والمجل... عبيد أيضًا»: ليس في (د).