إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لقد توفي النبي وما في رفي من شيء يأكله ذو كبد

          6451- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ‼) هو ابنُ(1) محمَّد بن أبي شيبةَ، واسمه: إبراهيم قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ) حمَّاد بنُ أسامة قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّي النَّبِيُّ صلعم وَمَا فِي رَفِّي) بفتح الراء وتشديد الفاء مكسورة، خشب يُرفع عن الأرض في البيت يُوضع فيه ما يرادُ حفظه، قاله عياضٌ، وقال في «الصحاح»: شِبْهُ الطَّاقِ في الحائطِ (مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ) شاملٌ لكلِّ حيوانٍ (إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ) بعض شعيرٍ، أو نصف وسقٍ منه (فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ) بتشديد التَّحتية (فَكِلْتُهُ) بكسر الكاف (فَفَنِيَ) قال الكِرمانيُّ: فإن قلتَ: سبقَ في «البيعِ» [خ¦2128] «كيلوا طعامَكُم يُبارك لكم فيه» وتَعْقِيب لفظ «فنيَ» بعدَ «كِلْتُه» هنا مشعرٌ بأنَّ الكيلَ سببُ عدم البركةِ؟ وأجابَ بأنَّ البركةَ عند البيعِ، وعدمَها عند النَّفقة، أو المراد أنْ يكيلَه بشرطِ أن يبقي الباقي مجهولًا، وقال غيرُه: لأنَّ الكيلَ عند المبايعة مطلوبٌ من أجل تعلُّق حقِّ المتبايعين، فلهذا القصد يُندب، وأمَّا الكيلُ عند الإنفاقِ فقد يبعث عليه الشُّحُّ فلذلك كُره، وقال القرطبيُّ: سببُ رفع النَّماء _والله أعلم_ الالتفاتُ بعينِ الحرصِ مع مُعاينة إدرار نِعَمِ الله، ومواهبِ كراماتهِ، وكثرةِ بركاتهِ، والغفلة عن الشُّكر عليها، والثِّقة بالَّذي وهبَها والميلِ إلى الأسبابِ المعتادةِ عند مشاهدةِ خرق العادةِ.
          وفي الحديث فضل الفقر(2) من المال، واختلفَ في التَّفضيل بين الغنيِّ والفقير، وكثُر النِّزاع في ذلك. وقال الدَّاوديُّ: السُّؤال أيُّهما أفضلُ لا يستقيمُ؛ لاحتمال أن يكون لأحدِهما من العملِ الصَّالح ما ليسَ للآخر فيكون أفضل، وإنَّما يقعُ السُّؤال عنهما إذا استويَا بحيث يكون لكلٍّ منهما من العملِ ما يقاومُ به عملَ الآخر. قال: فعلم أيُّهما أفضلُ عند الله، وكذا قال ابن تيميَّة(3) لكن قال: إذا استويا في التَّقوى(4) فهما في الفضلِ سواءٌ. وقال ابنُ دقيق العيد: إنَّ حديثَ أهل الدُّثور [خ¦843] يدلُّ على تفضيلِ الغنيِّ على الفقيرِ؛ لِمَا تضمَّنه من زيادةِ الثَّواب بالقُرَبِ الماليَّة إلَّا إن فسّر الأفضل بمعنى الأشرف بالنِّسبة إلى صفات النَّفس، فالَّذي يحصل للنَّفس من التَّطهير للأخلاق والرِّياضة لسوء الطِّباع بسبب الفقر أشرفُ، فيترجَّح الفقر(5)، ولهذا المعنى ذهب جمهور الصُّوفيَّة إلى ترجيح الفقير الصَّابر؛ لأنَّ مدارَ الطَّريق على تهذيبِ النَّفس ورياضتِها وذلك مع الفقرِ أكثر منه في الغِنى. وقال بعضُهم: اختلفَ هل التَّقلُّل من المالِ أفضل؟ ليتفرَّغَ قلبه من الشَّواغلِ وينالَ لذَّة المناجاةِ ولا ينهمِك في الاكتسابِ؛ ليستريحَ من طولِ الحساب، أو التَّشاغلُ باكتسابِ المال أفضل؛ ليستكثرَ به من التَّقرُّب(6) بالبرِّ والصِّلة والصَّدقة لِمَا في ذلك من النَّفع المتعدِّي؟ قال: وإذا / كان‼ الأمرُ كذلك فالأفضلُ ما اختارَه النَّبيُّ صلعم وجمهورُ أصحابه من التَّقلُّل في الدُّنيا والبعد عن زهرتهَا. وقال أحمدُ بن نصر الدَّاوديُّ: الفقرُ والغنى محنتانِ من اللهِ يختبرُ بهما عبادهُ في الشُّكر والصَّبر، كما قالَ الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7].


[1] «ابن»: ليست في (د).
[2] في (د): «الفقير».
[3] في (د): «تميمية».
[4] في (د): «التقوي».
[5] في (د): «الفقير».
[6] في (د): «القرب».