إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الأعمال بالنية ولامرئ ما نوى

          2529- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) أبو عبد الله العبديُّ البصريُّ الثِّقة، ولم يُصِبْ من ضَعَّفَهُ، وقد وثَّقه أحمد (عَنْ سُفْيَانَ) الثَّوريِّ قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريُّ التَّابعيُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ) القرشيِّ المدنيِّ التَّابعيِّ (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ) _بالمُثلَّثة_ أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: الأَعْمَالُ)(1) إنَّما تصحُّ (بِالنِّيَّةِ) بالإفراد (وَلاِمْرِئٍ) ثوابُ (مَا نَوَى) بحذف «إنَّما» في الموضعين، ومعنى النِّيَّة القصدُ إلى الفعل، وقال الحافظ المقدسيُّ في «أربعينه»: النِّيَّة والقصد والإرادة والعزم بمعنىً، والعرب تقول: نواك الله بحفظه، أي: قصدك، وعبارة بعضهم: إنَّها تصميم القلب على فعل الشَّيء، وقال الماورديُّ في «كتاب الإيمان»: النِّيَّة(2): قصد الشَّيء مقترنًا بفعله، فإن تراخى عنه كان عزمًا، وقال الخطَّابيُّ: قصدك الشَّيء بقلبك وتحرِّي الطَّلب منك له، وقال البيضاويُّ: النِّيَّة عبارةٌ عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرضٍ من جلب نفعٍ، أو دفع ضرٍّ، حالًا أو مآلًا، والشَّرع خصَّها بالإرادة المتوجِّهة نحو الفعل ابتغاءً لوجه الله وامتثالًا لحكمه، والنِّيَّة في الحديث محمولةٌ على المعنى اللُّغويِّ‼ ليحسن تطبيقه وتقسيمه بقوله: (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا) وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”لدنيا“ (يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) فإنَّه تفصيلٌ لِمَا أجمله، واستنباطٌ للمقصود(3) عمَّا أصله، والمعنى: من قصدَ بهجرته وجهَ الله وقع أجرُه على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأةً فهي حظُّه، ولا نصيبَ له في الآخرة، فالأُولى للتَّعظيم، والثَّانية للتَّحقير، ولا يُقال: اتَّحد / الشَّرط والجزاء؛ لأنَّا نقول: ليس الجزاء هنا نفس الشَّرط(4)، وإنَّما الجزاء محذوفٌ أُقيم هذا المذكور مقامه، وتأوَّله ابن دقيق العيد: بأنَّ التَّقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيَّةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا، وفيه بحثٌ سبق أوَّل هذا الكتاب [خ¦1] وأواخر «الإيمان» [خ¦54] فليُراجَع.
          وتنقسم النِّيَّة إلى أقسامٍ كثيرةٍ، كالتَّعبُّد: وهو إخلاص العمل لله تعالى، والتَّمييز، كمن أقبض ربَّ الدَّين من جنس دَينه شيئًا، فإنَّه يحتمل الهبة والقرض والوديعة والإباحة ونحوها، ويحتمل أن يكون من وفاء الدَّين، وكذا في مواضعَ من المُعامَلات ونحوها، ككناية البيع والطَّلاق، فإنَّه لو لم ينوِ الطَّلاق لم يقع، وكمن أُكرِه على الكفر فتكلَّم به وهو ينوي خلافه فإنَّه لا يكفر، ونحو ذلك ممَّا هو معروفٌ في كتب الفقه، وزعم قومٌ: أنَّ الاستدلال بالحديث في غير العبادات غير صحيحٍ؛ لأنَّه إنَّما جاء في اختلاف مصارف(5) وجوه العبادات، والجواب: أنَّ العبرة بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، واستنبط المؤلِّف منه عدمَ وقوع العِتَاق والطَّلاق من النَّاسي والمخطئ؛ لأنَّه لا نيَّة لهما، ولا يحتاج صريحُ الطَّلاق إلى نيَّةٍ؛ لأنَّ الصَّريحَ موضوعٌ للطَّلاق شرعًا، فكان حقيقةً فيه فاستغنى عن النِّيَّة، وقال الحنفيَّة: طلاق الخاطئ والنَّاسي والهازل واللَّاعب والذي تكلَّم به من غير قصدٍ واقعٌ؛ لأنَّه كلامٌ صحيحٌ صادرٌ من عاقلٍ بالغٍ.


[1] في (م): «أعمال»، وهو تحريفٌ.
[2] «النِّيَّة»: مثبتٌ من (د).
[3] في (د1) و(ص): «المقصود».
[4] في (ب): «الشَّرِّ»، وهو تحريفٌ.
[5] في (م): «معارف»، وهو تحريفٌ.