الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟

           ░4▒ (باب: هل يَنْفُخ في بيديه(1)؟...) إلى آخره
          كتب الشَّيخ في «اللَّامع»: لمَّا كانت نيابته عن الوضوء تُوهم(2) أنَّ الاستيعاب بالتُّراب لعلَّه مشروطًا(3) فيه، كما أنَّ في الوضوء يشترط استيعاب الماء كلَّ المغسول، دَفَعَه بأنَّ الاستيعاب وإن كان مشروطًا إلَّا أنَّ استيعاب التُّراب سائر العضو لا يُشترط، ودلالة الرِّواية على هذا المعنى ظاهرةٌ، فإنَّ استيعاب التُّراب لو كان مقصودًا لما نفخ النَّبيُّ صلعم في يديه، لأنَّه يقلِّل التُّراب، وتقليله خلاف المقصود على هذا التَّقدير. انتهى.
          وفي «هامشه»: في التَّرجمة أمران:
          الأوَّل: غرض المصنِّف بهذه التَّرجمة، وأجاد الشَّيخ قُدِّس سرُّه في وجهه، كما سترى، والأمر الثَّاني: أنَّ النَّفخ موجودٌ في الرِّواية نصًّا، فلمَ بوَّب عليه الإمام البخاريُّ بلفظ (هل) المُشْعِر إلى التَّرَدُّد؟
          قال الحافظ: إنَّما ترجم بلفظ الاستفهام لينبِّه على أنَّ نفخه ╕:
          1- يحتمل أن يكون لشيءٍ علق بيده الشَّريفة.
          2-أو التَّقليل(4)، فلعلَّه كَثُر.
          3-ويحتمل أن يكون لبيان التَّشريع، ومِنْ ثَمَّ تمسَّك به مَنْ أجاز التَّيمُّم بغير التُّراب، زاعمًا أنَّ نفخه يدلُّ على أنَّ المشترط في التَّيمُّم الضَّرب مِنْ غير زيادةٍ على ذلك، فلمَّا كان هذا الفعل محتملًا لما ذكره(5) أورده بلفظ الاستفهام. انتهى.
          وبه قال العينيُّ مع ترجيح الثَّالث وإضافة الرَّابع أنَّه لا وجه له، إذ قال: وتبويب البخاريِّ أيضًا بالاستفهام غير سديدٍ. انتهى مختصرًا.
          ولا يبعد عندي أنَّه أشار بلفظ: (هل) إلى أنَّ ظاهر الحديث النَّفخ، وقد ورد في فضل تراب العبادات رواياتٌ كثيرةٌ، منها أحاديث غبار الجهاد، ومنها قوله ╧ لمعاذ: (عفِّر وجهك في التُّراب)(6)، وغير ذلك مِنَ الرِّوايات.
          قال الحافظ: والفرق بينهما أنَّ التَّنظيف مطلوبٌ شرعًا، والغبار أثر الجهاد وإذا انقضى فلا معنى لبقائه، بخلاف الوضوء فالمقصود منه الصَّلاة، فاستحبَّ بقاء أثره حتَّى يحصل المقصود فافترقا. انتهى.
          وهذا المعنى بعينه موجودٌ في التَّيمُّم ولذا أشار إليه الإمام البخاريُّ بلفظ: (هل) عندي.
          وفي «تراجم شيخ المشايخ»: النَّفخ مستحبٌّ إذا تعلَّق بالأعضاء غبارٌ كثيرٌ تحرُّزًا عن المثلة. انتهى.
          كأنَّه أشار إلى الوجه الثَّاني مِنَ الوجوه المذكورة في كلام الحافظ [وبه جزم الكرمانيُّ]، ويمكن عندي وجهٌ آخر أيضًا يليق بشأن البخاريِّ وهو أنَّ نفخه صلعم في حديث الباب ليس لتراب التَّيمُّم، لأنَّه صلعم تيمَّم(7) إذ ذاك في الحقيقة، بل أراه كيفيَّة التَّيمُّم، فنفخ فيه، لأنَّ هذا لم يكن تراب التَّيمُّم حتَّى يعدَّ مع تراب الغبار في سبيل الله، فنبَّه الإمام بلفظ: (هل) إلى التَّردُّد في أن ينفخ تراب التَّيمُّم أيضًا أم لا، ووجه التَّردُّد كون هذا التُّراب أثر العبادة، بخلاف التُّراب الَّذِي التحق بيده الشَّريفة في الإراءة، فتأمَّل فإنَّه لطيفٌ. انتهى ملخَّصًا ما في «هامش اللَّامع».
          [لكن يشكل على هذا التَّوجيه أنَّ الإمام البخاريَّ ترجم بعده (باب: التَّيمُّم للوجه والكفَّين) وأخرج فيه حديث عمَّار هذا، فعلى هذا هو محمول عنده على حقيقة التَّيمُّم، فتأمَّل].
          وما أفاده الشَّيخ قُدِّس سرُّه مِنْ قوله: فإنَّ استيعاب التُّراب لو كان... إلى آخره، يؤيِّده ما في أبي داود مِنْ حديث عمَّار بن ياسرٍ بلفظ: ولم يقبضوا مِنَ التُّراب شيئًا(8).
          وفي هامشي على «البذل» / عن ابن رَسْلان: يؤخذ منه أنَّه يجوز التَّيمُّم وإن لم يَعْلَق بهما التُّراب، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة: خلافًا للشَّافعيِّ وأحمد إذ قالا: لا يجوز إلَّا أن يَعْلَق بالكفِّ مِنَ التُّراب شيءٌ(9). انتهى.
          وفيه أيضًا عن ابن رَسْلان على قوله: (ثُمَّ نفخهما) فيه دليلٌ على ما تقدَّم أنَّ التَّيمُّم يجوز بدون الغبار؛ إذ لو كان الغبار مطلوبًا ما نفخ فيه.
          وأجيب: بأنَّه يَحْتَمِل تقليل التُّراب(10)(11). انتهى.


[1] في (المطبوع): ((يديه)).
[2] في (المطبوع): ((يوهم)).
[3] في (المطبوع): ((الاستيعاب لعله مشروطٌ)) بسقوط: بالتراب.
[4] في (المطبوع): ((لتقليل)).
[5] في (المطبوع): ((ذكر)).
[6] ذكر العيني في عمدة القاري إنَّه لمعاذٍ ☺، والمشهور إنَّه أفلح مولى رسول الله صلعم، أخرجه التِّرمذيُّ في جامعه، باب ما جاء في كراهية النفخ في الصَّلاة، قال: (رأى النَّبيُّ صلعم غلامًا لنا يقال له أفلح إذا سجد نفخ، فقال: يا أفلح، ترب وجهك) (رقم: 381)، وذكره ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة أفلح مولى الرَّسول صلعم، وفيه تفصيلٌ, فليراجع.
[7] في (المطبوع): ((لم يتيمم)).
[8] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطهارة، باب التيمم، (رقم: 320).
[9] بذل المجهود: ج3/9
[10] في (المطبوع): ((تقليلًا للتراب)).
[11] بذل المجهود ج3/34