نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن رسول الله كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة

          494- (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) قال أبو علي الجياني: لم أجد إسحاق هذا منسوباً لأحد من الرواة.
          وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: <إسحاق بن منصور>، وكذا جزم به أبو نُعيم وخلف.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بضم النون، وقد تكرر ذكره [خ¦336] [خ¦463] (قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) (1) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ☺، أبو عثمان القرشي العدوي المدني، توفي سنة تسع وأربعين ومئة (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ) ♥ .
          ورجال هذا الإسناد ما بين كوفيين ومدنيين، وقد أخرج متنه مسلم، وأبو داود في «الصلاة» أيضاً.
          (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ، أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ) أي: أمر خادمه بأخذ الحربة، وهي الرمح العريض المنصل، وللبخاري في العيدين من طريق الأوزاعي عن نافع [خ¦973]: ((كان يغدو إلى المصلى والعنزة تحمل وتنصب بين يديه فيصلي إليها)).
          وزاد ابن ماجه وابن خزيمة والإسماعيلي: ((وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستره)). /
          (فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ) بالرفع عطفاً على فاعل يصلي من غير تأكيد بالمنفصل لمكان الفصل (وَرَاءَهُ) بالنصب على الظرفية (وَكَانَ) صلعم (يَفْعَلُ ذَلِكَ) أي: الأمر بالحربة والوضع بين يديه والصلاة إليها (فِي السَّفَرِ) فلم يكن مختصاً بيوم العيد.
          قال نافع: (فَمِنْ ثَمَّ) بفتح المثلثة؛ أي: فمن أجل ذلك (اتَّخَذَهَا) أي: الحربة (الأُمَرَاءُ) يُخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه، وهذه الجملة الأخيرة فصلها علي بن مُسْهِر من حديث ابن عمر ☻ فجعلها من كلام نافع كما أخرجه ابن ماجه قال: حدَّثنا محمد بن الصبَّاح: أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ☻ قال: ((كان النبي صلعم يخرج له حربة في السفر فينصبها فيصلي إليها)) ☺.
          وقد روى عمر بن شبة في ((أخبار المدينة)) من حديث سعد القرظ: ((أن النجاشي أهدى إلى النبي صلعم حربة فأمسكها لنفسه فهي التي يمشي بها يوم العيد)).
          ومن طريق الليث: ((أنه بلغه أن العنزة التي كانت بين يدي النبي صلعم كانت لرجل من المشركين فقتله الزبير بن العوام يوم أُحُد فأخذها منه النبي صلعم فكان ينصبها بين يديه إذا صلى)) ويمكن الجمع بأن عنزة الزبير كانت أولاً قبل حربة النجاشي.
          ومطابقة الحديث للترجمة من وجوه:
          الأول: أنه لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين، ولو كان لنُقِل لتوفر الدواعي إلى نقل الأحكام الشرعية فدل على أن سترته صلعم كانت سترة لمن كان خلفه.
          الثاني: أن قوله: ((فيصلي إليها والناس وراءه)) يدل على دخول الناس في السترة؛ لأنهم تابعون للإمام في جميع ما يفعله.
          الثالث: أن قوله: ((وراءه)) يدل على أنهم كانوا وراء السترة أيضاً؛ إذ لو كانت لهم سترة لم يكونوا وراءه، بل كانوا وراءها.
          وقد نقل القاضي عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة؛ يعني به: سترة الإمام، قال: ولكن اختلفوا هل سترتهم سترةُ الإمام، أو سترتهم الإمامُ نفسه.
          وقال الحافظ العسقلاني: فيه نظر؛ لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصحابي ☺ أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة فمر حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة.
          وفي رواية أنه قال لهم: ((إنها لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم)) فهذا يعكر على ما نُقل من الاتفاق، / ثم قال: ويظهر أثر الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد:
          فعلى قول من يقول: إنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه يضر صلاته وصلاتهم، وعلى قول من يقول أنَّ الإمام نفسه سترة من خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم.
          وقال محمود العيني: سترة الإمام سترة مطلقاً بالحديث المذكور، فإذا وجدت سترة لا تضر صلاة الإمام ولا صلاة المأموم.
          ومن فوائد الحديث: الاحتياط وأخذ آلة دفع الأعداء سيما في السفر، ومنها: جواز الاستخدام وأمر الخادم، ومنها: أن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
          قال ابن بطال: السترة عند العلماء سنة مندوب إليها.
          وقال الأبهري: سترة المأموم سترة إمامه فلا يضر المرور بين يديه؛ لأن المأموم تعلقت صلاته بصلاة إمامه، قال: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، وفي الأمن قولان عند مالك، وعند الشافعي مشروعة مطلقاً لعموم الأحاديث، ولأنها تصون البصر، فإن كان في الفضاء فهل يصلي إلى غير سترة؟ أجازه ابن القاسم لحديث ابن عباس المذكور.
          وقال مُطَرِّف وابن المَاجِشون: لابد من سترة، وذكر عن عروة وعطاء وسالم والقاسم والشعبي والحسن أنهم كانوا يصلون في الفضاء إلى غير سترة.
          وقال محمد ☼ : يُستحب لمن يصلي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصى ونحوها، فإن لم يجد يتستر بشجرة ونحوها.
          فإن قيل: الحربة المذكورة هل لها حد في الطول وما المعتبر في طول السترة؟.
          فالجواب: أنه قال أصحابنا: مقدارها ذراع فصاعداً وأخذوا ذلك بحديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلعم : ((إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضرك من يمر بين يديك)). رواه مسلم.
          وذكر شيخ الإسلام في ((مبسوطه)) من حديث أبي جُحَيفة الآتي ذكره [خ¦495]: أن مقدار العنزة طول ذراع في غلظ أصبع، ويؤيد ذلك قول ابن مسعود ☺: يجزئ في السترة السهم.
          وفي ((الذخيرة)): طول السهم ذراع وعرضه قدر أصبع، واختلف مشايخنا فيما إذا كانت السترة أقل من ذراع.
          وقال شيخ الإسلام: لو وضع قناة أو جعبة بين يديه وارتفع قدر ذراع كان سترة بلا خلاف، وإن كان دونه ففيه خلاف.
          وفي غريب الرواية: النهر الكبير ليس بسترة كالطريق، وكذا الحوض الكبير.
          وقالت المالكية: يجوز القلنسوة العالية والوسادة، وجوَّز في ((العتبية)): التستر بالحيوان الطاهر بخلاف / الخيل، والبغال، والحمير، وجوز بظهر الرجل، ومنع بوجهه، وتردد في جنبه، ومنع بالمرأة، واختلفوا في المَحَارم، ولا يتستر بنائم، ولا مجنون، ولا مأبون في دبره، ولا كافر. انتهى كلامه.


[1] ((من قوله: بضم النون... إلى قوله: بن عمر)): ليس في (خ).