التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}

          ░46▒ بَابُ (قَوْلِه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالتَهِ}[المائدة:67])
          إنْ قيل: الشَّرط والجزاء متَّحدان إذْ معنى إنْ لم تفعل: إنْ لم تُبلِّغ، قيل: المراد مِن الجزاء لازمه نحو: ((مَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
          قوله: (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ البَلاَغُ) أي مِن الله الإرسال، ولا بدَّ في الرِّسالة مِن ثلاثة أمور المرسل والمرسل إليه والرَّسول، ولكلٍّ منهم أمر، للمرسل الإرسال وللرَّسول التَّبليغ وللمرسل إليه القبول والتَّسليم.
          وما ذكره عن الزهري أخرجه عبدالرزاق عن معمَر عنه، وما ذكره عن عائشة أسنده عنها ابن المبارك في كتاب «البرِّ والصِّلة» عن سفيان عن معاوية بن إسحاق عن عروة عنها.
          قوله: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ}[التوبة:105] وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ) أي / لا يستخفنَّك بعملِه فتظنَّ به الحُسن، لكن حتَّى تراه عاملًا على مَا يشرع الله ورسوله، والمؤمنون على مَا عملوا.
          قوله: (وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ الكِتَابُ}[البقرة:2]) هَذا القرآن، قد فُسَّر {ذَلِكَ}[البقرة:2] بهذا، وذلك ما يخبر به عَن الغائب وهذا إشارة إلى الحاضر، والكتاب حاضر.
          وما قاله معمر قاله عكرمة وأبو عبيد، ومعنى ذلك أنَّه لما ابتدَأ جبريل بتلاوة القرآن لمحمَّد (1) صلعم كفت حضرة التلاوة عن أن يقول: ذلك الَّذي (2) يسمع هو ذلك الكتاب لا ريب فيه، فاستغنى بأحد الضميرين عَن الآخر، وأنكر أبو العباس مقالة أبي عبيدة السَّالفة، وقال: لا، ذلك لما بَعُد وذا لما قَرُب، فإنْ دخل واحد منهما عَلى الآخر انقلب المعنى.
          قال: ولكن المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الَّذي كنتم تستفتحون به على الَّذين كفروا. وقال الكِسَائي: كأنَّ الرِّسالة والقول في السَّماء والكتاب والرَّسول في الأرض فقال: ذلك يا محمَّد. قال ابن كيسان: وهذا أحسن. قال الفرَّاء: يكون كقولك الرَّجل وهو يحدِّثك اللَّفظ بمنزلة الغائب وليس بغائب، والمعنى عندَه ذلك الَّذي سمعت به، وأيَّده البخاري بقوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم}[يونس:22] فلمَّا جاز أنْ يخبر عنه بضميرين مختلفين ضمير المُخاطبة في الحضرة وضمير الخبر عن الغيبة فكذلك أخبر بضمير الغائب بقوله: {ذَلِكَ}[البقرة:2] وهو يريد هذا الحَاضر، وهذا مَذهب مشهور العرب تُسمِّيه أصحاب المعاني الالْتفات، وهو انْصراف المتكلِّم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر.
          قوله: ({هُدًى (3) لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]) بيان ودلالة يُقال: دلال بيِّن الدلالة ودليل بيِّن الدلالة _بالكسر_ قاله أبو عمرو الزَّاهد، وحكاه الجوهري بكسر دالِ دلالة وفتحها قال: والفتح أعلى.
          ومعمَر هذا هو أبو عبيدة _بضم العين وفتح الموحدة_ ابن المثنى اللُّغوي وقيل: هو معمَر بن راشد البصري ثمَّ التَّميمي، وجعلُه ذلك بمعنى هَذا خلاف المشهور، لأنَّ ذلك للبعيد وهذا للقريب كما قدَّمناه.
          قوله: ({ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ}[الممتحنة:10]) هذا حُكم الله.
          قوله: (وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ (4) وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم ؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ) أي قاموا إلى رَجل منهم فطعنَه بالرُّمح فأنفذَه فقال: فزتُ وربِّ الكَعبة.
          وحرام هو ابن مِلْحان _بكسر الميم وبالحاء المهملة_ الأنْصاري البَدري، والَّذين بعثهم إليهم رسول الله صلعم بني عامر.
          وقوله: (أَتُؤْمِنُونِي) أي تجعلوني آمنًا؟ فأمَّنوه، وتمام حديثه مذكور في غزوة الرَّجيع، وهو هناك مسندٌ، وعلَّقه البخاري هنا.
          وفي حرام وأصحابه نزل: ((إنَّا قد لقينا ربنَّا فرضي عنَّا ورضينا عنه)) ثمَّ كان ذلك مِن المنسوخ ((فدعا رسول الله صلعم ثَلاَثِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ)) / الحديثَ.


[1] في الأصل:((بمحمد)).
[2] في الأصل:((التي)).
[3] في الأصل:((هذا)).
[4] في الأصل:((قوم)).