التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب قول الله تعالى: {ونضع الموازين القسط}

          ░58▒ بَابُ (قَوْلِه تَعَالَى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ}[الأنبياء:47] وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَأقَوْلَهُمْ تُوزَنُ).
          القسط مصدر يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، أي الموازين العادلات ذوات القسط، أي العدل لجزاء الخلق في يوم القيامة، / والموازين جمع ميزان وهو الَّذي يُوزن به، فإن قلتَ: إنَّما هناك ميزان واحد توزن فيه الحسنات والسِّيئات. قلتُ: جُمِع باعتبار العِباد وأنواع الموزونات، وقوله:{لِيَوْمِ القِيَامَةِ}[الأنبياء:47] أي في يوم القيامة، وقد اعترض عَلى قوله: (وَأَنَّ أَعْمَالَ بنيْ آدَمَ وَأقْوَالهمْ تُوْزَنُ) فإنَّ الموزون الصَّحائف المكتوب فيها الأعمال، كما نصَّ عليه في حديث التِّرمذي الَّذي في السِّجلات لا الأعمال، إذ هي أعراض عند أهل السُّنَّة لا ثقل لها ولا جسم، لكن قيل: إن الله تعالى يصوِّرها في جواهر وأجسام فيصوِّر أعمال المطيعين في صورة حسنة وأعمال العاصين في صورة قبيحة، ثمَّ يزنها وحينئذٍ يصحُّ وصف العمل بالوزن، وحكى بعضهم خلافًا وقال: الرَّاجح أنَّ الوزن في الآخرة بصعود الراجح عكس الوزن في الدنيا. وهو غريب.
          وفي الحديث أنَّ الميزان حقٌّ والإيمان به واجب وله كفَّتان ولسان، وهو جسم، وقيل: هو كميزان الشعر، وفائدته إظهار العَدل والمبالغة في الإنصاف والإكرام قطعًا لا عذاب العباد.
          قوله: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) هو ابن جبر _بفتح الجيم وإسكان الموحدة_ المفسِّر المكِّي: (القُسْطَاسُ) العدل بالرُّومية، هو بضم القاف وكسرها قُسطاس وقِسطاس فإن قلتَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف:2] يمنع ذلك؟ قلتُ: وضعُ العربِ فيها وافق لغتهم، أي هو مِن باب توافق الوصفين، وللأصوليين في أمثاله مباحث.
          وهذا الأثر عن مجاهد رواه ورَقاء عن ابن أبي نَجيح، وذكر الزَّجاج في «معانيه»: أنَّ القسط هو العدل، والمعنى: ونضع الموازين ذوات القسط، وقسط مثل عدل مصدر يُوصف به يُقال: ميزان قسط وموازين قسط، وأجمع أهل السُّنَّة على الإيمان بالميزان، وأنَّ أعمال العباد تُوزن يوم القيامة، وأنَّ الميزان له لسان وكفَّتان، وأنكر المعتزلة الميزان وقالوا: إنَّه عبارة عن العدل وهو مخالف لنصِّ الكتاب والسُّنَّة.
          قوله: (وَيُقَالُ: القِسْطُ) أي بالكسر مصدر المقسط، اعتُرِض عليه بأنَّ مصدر القسط الإقساط، وأُجيب بأنَّ ذلك في المصدر الجاري على فعله وليس هو مراد البخاري، وإنَّما أراد بالمصدر المحذوف الرواية كالقدر مصدر قدرت إذا حُذفت زوائده، قال الشاعر:
وإن تهلك فذلك كان قدري
          يعني تقديري فحُذف زوائده ورُدَّ إلى الأصل _وهو كثير_ وإنَّما تحذف العرب زوائد المصادر ليُرَدَّ الكلامُ إلى أصله، وقد أورد الكِرْمَاني هذا في معرِض السُّؤال والجواب فقال: إن قلتَ: / مصدره الأقساط لا القِسط؟ وأجاب بأنَّ المراد المصدر الجاري على فعله هو الإقساط، والمقسط هو العادل، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ (1) يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[المائدة:42] والقاسط الظَّالم قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}[الجن:15] قال: فإنْ قلتَ: المزيد لا بدَّ أن يكون مِن جنس المزيد عليه (2) قلتُ: إمَّا أن يكون القسط مِن المقسِط بالكسر، وإمَّا أن يكون مِن القَسط بالفتح الذي هو بمعنى الجور والهمزة (3) للسَّلب والإزالة.قال الإسماعيلي: أقسط إذا عدل وقسط إذا جَار، وهما يرجعان إلى معنى متقارب، لأنَّه يُقال: عدل عن كذا إذا مال (4) وكذلك قسط إذا عدل عن الحقِّ، وأقسط كأنَّه لزم القسط وهو العدل.


[1] في الأصل:((قال تعالى: والله)).
[2] في الأصل: بدون((عليه)).
[3] في الأصل:((والهمز)).
[4] في الأصل:((ثار)).