التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}

          ░32▒ باب قوله: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:23]
          غرضه مِن هذه الآية _بل مِن الباب كلِّه_ إثبات كلام الله تعالى القائم بذاته تعالى، ودليله أنَّه قال: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}[سبأ:23] ولم يقلْ: ماذا خلقَ ربُّكم ، وفيه ردٌّ على المعتزلة حيث قالوا: إنَّه مُتكلِّمٌ بمعنى أنَّه خالقٌ للكلام في اللَّوح المحفوظ مثلًا.
          وفيه إثباتُ الشَّفاعة وكذا الآية الثانية حيث قال: {إِلَّا بِإِذْنِهِ}[البقرة:255] أي بقوله وكلامه.
          قوله: (وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي أُزيل الخَوف، والتَّفعيل للإزالة والسَّلب.
          قوله: (وَسَكَنَ الصَّوْتُ) أي المخلوق لإسماع أهل السَّموات إذ الدلائل القاطعة قائمة عَلى تنزيه الله تعالى عن الصَّوت لأنَّه يستلزم الحدوث لأنَّه مِن الموجودات السَّيَّالة الغير القارَّة.
          وفائدة سؤالهم:{مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}[سبأ:23]) وهم قد سمعوه، أنَّهم سمعوا قولًا لم يَفهموا معناه كما ينبغي لأجل فَزعهم.
          وهذا التَّعليق عن مسروق أسنده أبو داود عن أحمد بن أبي شُريحٍ وغيره عن أبي معاوية عن الأعمش عن شقيق عن مسروق أنَّه حدَّث به عنه مرفوعًا.
          قوله: (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) هذا تعليق بصيغة التمريض. و(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) ابن حَرام الأنْصاري الخزرجي أحدُ المكثرين للحديث عن رسول الله صلعم ، وهو مع علوِّ مرتبته رحلَ إلى الشَّام لحديث واحد يسمعه مِن عبد الله بن أُنيس بن سعد الْجَهْمِيِّ العقبي الأنْصاري خَلقًا.
          والحديث المرحول إلى الشَّام لسماعه قيل هو: ((يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ)) الحديث المذكور. وقيل: ومِن تتمَّته بيان المساجد، وهو أنَّه ما معناه أنَّه لا يدخل الجنَّة أحدٌ ومِن أهل النَّار مَن يظلمه بمظلمة، ولا يدخل النَّار أحدٌ ومِن أهل الجنَّة أحدٌ يظلمه بمظلمةٍ حتَّى اللَّطمة. لعبد الله بن أنيس أبو يحيى عَن رسول الله صلعم أربعة وعشرون، أخرج له مسلم منها حديثًا واحدًا مات سنة / أربع وخمسين بالشَّام وباقي أحاديثه عند الأَربعة.
          وما علَّقه البخاري عن جابر أسندَه الحارث بْن أبي أسامة في «مسنده» مِن حديثه قال: بلغني حديثٌ عن رجلٍ مِن أصحاب النَّبيِّ صلعم فابتعت بعيرًا فشددت عليه رَحْلي ثمَّ سِرت شهرًا حتَّى قدِمت الشَّام فإذا عبد الله بن أنيس الأنْصاري، فذكره عنه مطولًا. و(الدَّيَّانُ) أي المجازي والمحاسب.
          قوله: (يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ) أي يقول بصوت مخلوق غير قائم به.
          قوله: (يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ) إن قيل: ما السرُّ في كونه خارقًا للعادة إذ في سائر الأصوات التَّفاوت ظاهرٌ بين القريب والبعيد؟ قيل: لِيُعلم منه أنَّ المسموع كَلام الله كما أنَّ موسى ◙ كان يسمع مِن جميع الجهات كذلك.
          قوله: (أَنَا المَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ) أي: لا مَلِك إلَّا أنا ولا مُجازي إلَّا أنا، إذ تعريف الخبر دليل الحصر، واختار هذا اللَّفظ لأنَّ فيه إشارة إلى الصِّفات السَّبعة: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والسَّمع والبصر والكلام لِيُمكنَ المجازاة على الكَلِّيات والجزئيات قولًا وفعلًا.
          قوله (1): تعليقه لحديث جابر هنا بِصيغة التَّمريض قد علقّهَ في كتاب العلم في باب الرِّحلة بصيغة الجزم.
          قال القاضي: ومعنى الحديث أنَّ الله تعالى يَجعل مَلَكًا ينادي أو يخلق صوتًا يسمعه النَّاس، وأمَّا كلام الله تعالى فليس بحرفٍ ولا صوتٍ. وقال أبو العبَّاس القرطبي: هذا الحديث والَّذي قبله غير صَحيحين كلاهما معلَّق مقطوع، والأوَّل موقوف فلا يُعتمد عليهما في كون الله تعالى مُتكلِّمًا بصوت فإنَّ كلام الله تعالى الَّذي هو صفته منزَّهٌ عَن الحروف والأصْوات كما قامت الأدَّلة القاطعة عليه.


[1] كذا في الأصل ولعله:((تنبيه)).