التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا

          ░19▒ (باب إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا) أي: أظهرا ما في المبيع من العيب، والبيعان بفتح الموحَّدة وكسر التاء المثنَّاة من تحت المشددة، وأطلق على المشتري تغليبًا، أو هو من باب إطلاق لفظ المشترك، وإرادة معنييه معًا إذ البيع جاء لمعنيين، وكذلك الشراء. قاله الكرماني.
          قوله: (وَيُذْكَرُ عَنِ العَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ) يعني: ابن هوذة العامري، أسلم بعد الفتح، وأسلم أبوه وعمه، وكان العداء سكن البادية، وهو من بني ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة من أعراب البصرة. والعداء بفتح العين وتشديد الدال المهملتين وبالمد، قال المطرزي: فرس عداء على فعال، وبه سمي العداء الذي كتب له النَّبي صلعم الكتاب المشهور، وذلك أنَّه اشترى منه رسول الله أمة أو عبدًا، والمراد بالداء في قوله: (لَا دَاءَ): العيب المثبت للخيار، وبالغائلة: ما فيه هلاك مال المشتري ككونه آبقًا، والمراد بالخبثة وهي بكسر الخاء المعجمة وبموحَّدة ساكنة وثاء مثلَّثة إنَّه ليس بجر الأصل ولا ممن لا يحل سبيهم لعهد تقدَّم لهم أو جزية، بل هو عبد رقيق، وقال الخطابي: قيل: أراد بالخبثة: الحرام كما عبر عن الحلال بالطيب، قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}[الأعراف:157]، أراد به: عن حرام.
          وقوله: (بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِن الْمُسْلِمِ) ليس فيه: أن المسلم إذا باع من الذمي جاز له أن يغشه، بل أراد بقوله: (بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِن الْمُسْلِمِ) بيان حال المسلمين إذا تعاقدوا، فإن من حق النصيحة لأخيه أن يصدق كل واحد منهما صاحبه، وقِيلَ: المراد بالخبثة: الأخلاق الخبيثة كالإباق، وقال صاحب «العين»: هي الريبة، وقوله: (ولا غائلة) هي الإباق والفجور، وقال البخاري عن قتادة: هي الربا والسرقة والإباق.
          تنبيه: قول البخاري: (هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلعم مِن الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ) قال الكرماني: هذه هي الرواية المشهورة، قال: وفي بعض الروايات: (هذا ما اشترى العداء بن خالد من محمَّد رسول الله).
          قلت: وهو المذكور في «الفائق» و«مشكل الآثار» و«معجم الطبراني» و«معرفة الصحابة» لابن منده و«الدعوات» و«الفردوس» روايات كثيرة، وكذا رواه الترمذي عن ابن بشار عن عباد بن ليث عن عبد المجيد بن وهب قال: قال لي العداء بن خالد: ألا أريكَ كتابًا كتبه لي النَّبي صلعم ؟ قلت: بلى، فأخرج لي كتابًا / : هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذ من محمَّد رسول الله صلعم اشترى منه عبدًا أو أمة لا داء ولا خبثة ولا غائلة، بيع المسلم للمسلم، ثمَّ قال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث، وقال الدارقطني: لم يروه غيره، قال ابن الملقِّن: قد رواه أبو عمر من حديث عثمان الشحام عن أبي رجاء العُطاردي، وفيه: هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذ من محمَّد رسول الله إلى آخره، وهو أشبه من قول البخاري: (اشترى محمَّد رسول الله صلعم من العداء بن خالد) لأنَّ العهد إنَّما يثبت للمشتري لا للبائع، قال: وكذلك رواه جماعة كرواية الترمذي، وهو الصَّحيح، قال: وادعى ابن التين أن الحديث مرسل وهو عجيب (1)، وكأنَّه أراد أن البخاري ذكره معلقًا بغير إسناد، ولما ذكر الكرماني أنَّ المشهور رواية البخاري، قال: إن قلت العادة أن البائع يكتب مثل هذه الحجة، قال: قلت: قد يكتب المشتري أيضًا، وكلاهما عادة، وأمَّا إذا كان الثمن في الذمة فالكاتب هو البائع ألبتة. انتهى. وقال القاضي: قيل: إن ما في البخاري مقلوب، وصوابه: هذا ما اشترى العداء بن خالد من محمَّد رسول الله صلعم ، قال: ولا يبعد صواب ما في البخاري، واتفاقه مع باقي الروايات الأخرى إذا جعلت (اشترى) بمعنى: باع.
          تنبيه آخر: قوله: (بَيْعَ الْمُسْلِمِ) هو نصب على المصدر من غير فعله لأنَّ معنى البيع والشراء متقاربان، أي: باعه بيع المسلم من المسلم، أضاف إلى الفاعل ونصب به المفعول، ويجوز الرفع على كونه خبر المبتدأ المحذوف، والمسلم الثاني منصوب بوقوع فعل المبيع عليه، وليس في ذلك ما يدل على أن المسلم إذا باع من غير المسلم يجوز أن يعامله بما يتضمن عيبًا أو غشًا، وإنَّما قال ذلك على سبيل المبالغة في النصيحة، فإن المسلم إذا باع من المسلم يَرَى له من النصح أكثر ما يَرَى لغيره، قال الْمُطَّرِّزِيُّ: والداء: هو وجع باطن ظهر فيه شيء أم لا كوجع الكبد والسعال، قال ابن التين: والخبثة مضبوط في أكثر الكتب بضم الخاء، وكذا سمعناه، وضبط في بعضها بالكسر أيضًا.
          قوله: (وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ) هو جمع نخَّاس، وهو بنون مفتوحة وخاء معجمة وسين مهملة مكسورة، أي: الدلالين.
          قوله: (يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ) قال الكرماني: هو بضم الهمزة معناه... (2)، وخراسان بضم الخاء المعجمة: الإقليم المعروف، / و(سِجِسْتان) بكسر السين المهملة الأولى والجيم وسكون الثانية: اسم للديار التي قصبتها زَرَنْج بفتح الزاي والراء وإسكان النون وبالجيم، وهذه المملكة خلف كِرمان بمسافة مائة فرسخ، وهي إلى ناحية الهند، ويقال لها: السَّجْز _ بكسر السين المهملة وإسكان الجيم وبالزاي_ ، وهذا الأثر عن إبراهيم رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة عنه بلفظ: قيل له: إن ناسًا من التجار وأصحاب الدواب يسمى أحدهم إصطبل دوابه بخراسان وسجستان ثمَّ يأتي السوق، فيقول: جاز من ذلك، فكره إبراهيم ذلك، والذي قال القاضي وغيره: أن (آرِيَّ) بفتح الهمزة والمد وراء مكسورة ياء مشدَّدة على الصواب، ووقع عند المروزي بفتح الهمزة والراء مثل: دعا، وليس بشيء.
          وقد اختلف أهل اللغة في تفسير الآري، فقال ابن الأنباري: هو عند العرب الموضع الذي تلزمه الدَّابَّة من الإصطبل، مأخوذ من قولهم: قد تأرى الرجل بالمكان إذا أقام به، والمقامة آرِيَّ تخطئُ (3) في الآري، فيُظنُّ أنَّها المعلف. انتهى. وجعله ابن السكيت من لحن العوام، وقال صاحب «العين»: الآري: المعلف، وأرت الدَّابَّة إلى معلفها تأري إذا ألفته، وحكى الكرماني عن التيمي: أن الآري: المعلف، وأصله من قولهم: تأرَّيتُ في المكان أي: احتبست، فآري: محبس الدَّابَّة، قال: وقد يسمى به الحبل الذي تشد به الدَّابَّة في محبسها، وقال الخليل: هو مربط الدَّابَّة، وقِيلَ: معلفها، وقال الأصمعي: هو حبل يدفن في الأرض ويبرز طرفه تُشَدُّ به الدَّابَّة، أصله من الحبس والإقامة، من قولهم: تأرى الرجل بالمكان إذا أقام به، وقال ابن فارس: آري الدَّابَّة: المكان الذي تتأرى فيه، أي: تتمكن به، قال ابن التين: وضبط في بعض الأصول: (أَرْي) بفتح الهمزة وسكون الراء، وفي بعضها بضم الهمزة وفتح الراء، وضبط في بعض الكتب بالمد وكسر الراء وتشديد الياء، ووقع لأبي ذرٍّ بضم الهمزة، وهو تصحيف، واقتصر الكرماني على الضبط به كما تقدَّم، ومعنى ما أراده البخاري: أنَّ النخاسين كانوا يسمُّون مرابط دوابهم بهذه الأسماء ليدلسوا على المشتري بقولهم: (4)جاء الآن من خراسان وسجستان، يعنون: مرابطها، فيحرِّض بذلك عليها المشتري، وبطنها طرية الحلب، قال القاضي: وآري إنَّه نقص من الأصل بعده آري لفظة: دوابهم، وتقدَّمت روايته عن ابن أبي شيبة في «مصنفه» فقال: حدَّثنا هشام عن مغيرة عن إبراهيم قال: قيل له: إن ناسًا من النخاسين / وأصحاب الدواب يسمي أحدهم إصطبل دوابه خراسان وسجستان، قال: إني أكره هذا.
          قوله: (وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أن يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَ به) هذا الذي ذكره موقوفًا، رفعه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث ابن شماسة عنه مرفوعًا: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لامرئ مسلم أن يغيب ما بسلعته عن أخيه إن علم بذلك تركها)) هذا لفظ أحمد، ولفظ ابن ماجه: ((المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وفيه عيب إلا بينه))، وقال الحاكم: إنَّه حديث صحيح على شرط الشيخين، وأقره البيهقي في «خلافياته» على تصحيحه، وابن شماسة هو عبدالرَّحمن، وانفرد بالإخراج عنه مسلم، ووثق، وفي سنده (5) أحمد بن لهيعة وحاله معروف وفي سند (6) الحاكم محمَّد بن سنان القزاز، قال الدارقطني: لا بأس به، وضعف غيره جدًا، قال الكرماني: وعقبة بن عامر جهني شريف فصيح فرضي شاعر شهد فتوح الشام، وكان هو البريد إلى عمر ☺ بفتح دمشق، ووصل المدينة في سبعة أيام، ورجع منها إلى الشام في يومين ونصف بدعائه عند قبر رسول الله صلعم في تقرير طريقه، مات واليًا بمصر سنة ثمان وخمسين.


[1] في الأصل:((عجب)).
[2] كلمة غير واضحة في الأصل.
[3] كذا في الأصل، ولعله:((والعامة تخطئ)).
[4] زاد في الأصل كلمة صورتها:((كما)).
[5] صورتها في الأصل:((مسنده)).
[6] صورتها في الأصل:((مسند)).