التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد

          قوله: (بَابُ الصَّلاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمُصَلَّى وَالْمَسْجِدِ): اعلم أنَّه ◙ لم يكن من هديه الرَّاتبِ الصَّلاةُ على الميِّت بالمسجد، وإنَّما كان مُصلَّى الجنائز، ولهذا قدَّمه الإمام البخاريُّ، وربَّما كان يصلِّي أحيانًا على الميِّت في المسجد؛ كما صلَّى على سهيل بن بيضاءَ وأخيه في المسجد، كما رواه مسلم وأبو داود، وسأذكر الكلام على أخيه هنا، وقد صلَّى ◙ في مسجد بني معاوية على أبي الربيع عبدِ الله بن عبد الله بن ثابت بن قيس بن هَيْشة بن الحارث بن أميَّة بن معاوية، وقد كان شهد أُحُدًا، وكان في أهل هَيْشة صلاحٌ ودينٌ، وعنه ◙: «نِعْمَ أهلُ البيت آلُ هَيْشة»، ولكن لم تكن سنَّتُه وعادتُه الصَّلاةَ على الميِّت في المسجد، وقد روى أبو داود في «سننه» _وكذا ابن ماجه_ من حديث صالح مولى التَّوْءَمة عن أبي هريرة: قال رسول الله صلعم: «من صلَّى على جنازة في المسجد؛ فلا شيءَ له»، وقد اختُلِف في لفظ الحديث؛ فقال الخطيبُ في روايته لـ«أبي داود» في الأصل: (فلا شيء عليه)، وغيرُه يرويه: (فلا شيء له)، ولفظ ابن ماجه: (فليس له شيء)، ولكن قد ضعَّف أحمدُ وغيرُه هذا الحديثَ، قال أحمدُ: (هو ممَّا انفرد به صالحٌ مولى التَّوءمة)، وقال البيهقيُّ: (هذا حديث(1) يُعدُّ في أفراد صالح، وحديثُ عائشةَ أصحُّ منه، وصالحٌ مُختَلَف في عدالته، كان مالكٌ يجرحه)، ثمَّ ذكر عن أبي بكر وعُمر: أنَّه صُلِّي عليهما في المسجد، انتهى، وصالحٌ ثقة في نفسه؛ كما قال عبَّاسٌ عنِ ابنِ مَعِين: (هو ثقة)، وقال ابنُ أبي مريم عن يحيى: (ثقة حجَّة، فقلت له: إنَّ مالكًا تركه، قال: إنَّ مالكًا أدركه بعدما خَرِف، والثَّوريُّ إنَّما أدركه بعد أن خَرِفَ، فسمع منه، لكنِ ابنُ أبي ذئب سمع منه قبل أن يَخْرَف)، وقال ابنُ المدينيِّ: (ثقةٌ إلَّا أنَّه خَرِفَ وكبر، فسمع منه الثَّوريُّ بعد الخرف، وسماعُ ابنِ أبي ذئب منه قبلَ ذلك)، وقال ابن حِبَّان: (تغيَّر في سنة خمس وعشرين ومئةٍ، وجعل يأتي بما يشبه الموضوعات عن الثِّقات، فاختلط حديثُه الأخيرُ بحديثِه القديمِ، ولم يتميَّز، فاستحقَّ التَّركَ)، انتهى كلامه، ونقل في «الميزان» عنه: أنَّه باطل، وهذا الحديثُ الذي يظهر أنَّه حسنٌ؛ فإنَّه من رواية ابن أبي ذئب، وقد روى عنه قبل الاختلاط، وقد سلك الطَّحاويُّ في حديثِ أبي هريرة هذا وحديثِ عائشة مَسْلَكًا آخرَ، فقال: (صلاتُه ◙ على سهيل في المسجد منسوخةٌ، وتَرْكُ ذلك آخِرُ الفعلين منه ◙؛ بدليل إنكار عامَّة الصَّحابة على عائشة، وما كانوا ليفعلوه إلَّا لمَّا علموا خلافَ ما نقَلَتْ)، وردَّ ذلك على الطَّحاويِّ جماعةٌ؛ منهم: البيهقيُّ وغيرُه، قال البيهقيُّ: (ولو(2) كان عند أبي هريرة نسخُ ما رَوَتْهُ عائشةُ؛ لذَكَرَهُ يوم صُلِّيَ على أبي بكر في المسجد، ويوم صُلِّيَ على عمر بن الخطَّاب فيه، ولذكره مَن أنكر على عائشة أمْرَها بإدخاله المسجدَ، وذكره أبو هريرة حين روتِ الخبرَ، وإنَّما أنكره مَن لم يكن له معرفةٌ بالجواز، فلمَّا روتِ الخبرَ؛ سكتوا ولم يُنكِروه، ولا عارضوه بغيره)، قال الخطَّابيُّ: (وقد ثبت أنَّ أبا بكر وعمر صُلِّيَ عليهما في المسجد، ومعلومٌ أنَّ عائشةَ والمهاجرين والأنصارَ شهدوا الصَّلاة عليهما، وفي تَرْكِهم إنكارَه الدَّليلُ على جوازه)، قال: (وقد يحتمل معنى حديث أبي هريرة _إن ثبت_ مُتأوَّلًا على نقصان الأجر؛ وذلك أنَّ مَن صلَّى عليها في المسجد؛ فالغالب أن ينصرف إلى أهله، ولا يشهد دفنه، وأنَّ مَن سعى إلى الجنازة فصلَّى عليها بحضرة المقابر؛ يشهد الدَّفن، ويُحرِز القيراطين، وقد يُؤجَر على كثرة خُطَاه، فصار الذي يُصلِّي عليها في المسجد منقوصَ الأجر بالإضافة إلى مَن يصلِّي عليها خارج المسجد)، وقالت طائفةٌ: (معنى «لا شيءَ له»: لا شيء عليه؛ ليتَّحد معنى اللَّفظين ولا يتناقضان)، فهذه طرق النَّاس في هذين الحديثَين، والصَّواب: ما قدَّمْتُه أنَّ السُّنَّةَ الصَّلاةُ عليه خارجَ المسجد إلَّا لعذرٍ، وكِلَا الأمرين جائز، والأفضل: الصَّلاة عليها خارجًا، وقد قال بعضُ الشافعيَّة: السُّنَّةُ المسجدُ.
          تنبيهٌ: قوله في «مسلم»: (على سُهَيل وأخيه)، فسَّروا أخاه: بـ(سهل)؛ مُكبَّرًا، وإنَّما تُوُفِّيَ المُكبَّر بعد وفاته ◙، كما ذكره الواقديُّ، وقد رأيت بِخَطِّ الحافظ الدِّمياطيِّ في حاشية نسخة «مسلم(3)»: (أنَّ سهلًا تُوُفِّيَ بعده ◙، والذي مات في أيَّامه سُهَيلٌ _يعني: المُصغَّر_ سنة تسعٍ)، ولابن الجوزيِّ: (سهيل وصفوان)، وهذا غلطٌ؛ لأنَّ صفوان مات قَتْلًا ببدر، ولم يمت بالمدينة، والذي يظهر أنَّ الصَّواب: حديثُ عبَّاد المتقدِّم في «مسلم» المحذوف منه الأخُ، ويحتمل أن يكون أخاه من الرَّضاعة أو غير ذلك، وبنو بيضاءَ ثلاثةٌ: سهلٌ، وسُهَيلٌ، وصفوانُ، والبيضاء: لقب أمِّهم، واسمها دعد، وأبوهم: وَهْبُ بن ربيعة، وقد أطلنا في المسألة؛ لترك بعضِ الناس الصَّلاةَ على الميِّت في المسجد، والله أعلم.


[1] في (ج): (قال البيهقي: هذا الحديث).
[2] في (ج): (لو).
[3] في (ج): (لمسلم).