التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب قول النبي: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه

          قوله: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: «يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ...) إلى آخر كلامه: اعلم أنَّ العلماء اختلفوا في معنى تعذيبه ببكاء أهله عليه على أقوال؛ أصحُّها _وهو تأويل الجمهور_: أنَّه محمول على مَن أوصى به، كما كانت العرب تفعله، وإليه ذهب مؤلِّف الكتاب؛ لقوله(1): (إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ(2))، الثَّاني: يُعذَّب بسماعه بكاء أهله، ويرقُّ لهم، ويسوْءُه إتيانُهم ما يكره ربُّه، (وهذا أولى الأقوال)، قاله عياض، وفيه حديث، وهو من رواية قَيْلة بنت مَخْرمَة، ذكره القرطبيُّ في «تذكرته» [وعزاه] إلى أبي بكر بن أبي خيثمة، وأبي بكر ابن أبي شيبة، قال: (وإسناده لا بأس به)، انتهى، الثَّالث: أنَّهم يعدِّدون في نواحهم جرائمَ(3) الموتى، ويظنُّونه محمودًا؛ كالقتل، وشنِّ الغارات، فهو يُعذَّب بما ينوحون به عليه، الرَّابع: أنَّ قوله: «ببكاء أهله»؛ أي: عند بكاء أهله يُعذَّب بذنبه، الخامس: أنَّه محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذُّنوب، السَّادس: مخصوص بشخص بعينه، ذكره أبو بكر بن الطَّيِّب احتمالًا، وفي المسألة قولٌ آخرُ ذهب إليه داودٌ وطائفةٌ من العلماء: أنَّه على ظاهره؛ لأنَّه أهمل نهيَهم، فعُذِّب؛ لتفريطه في ذلك، والله أعلم.
          قوله: (وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ): (يُرخَّص): مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وهذا ظاهرٌ.
          قوله: («عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»): (ابن آدم الأوَّل): قابيلُ، فإنَّه قتل أخاه هابيلَ؛ ابني آدم، قال الطَّبريُّ: (أهل العلم مُختلِفون في القاتل؛ فبعضهم يقول: هو قين بن آدم، وبعضهم: قائن بن آدم، وبعضهم يقول: قابيل)، وقال الطَّبريُّ عن الحسن [في] اللَّذين أنزل الله فيهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ}[المائدة:27]: (إنَّهما كانا في بني إسرائيل، ولم يكونا ابنَي آدم لصلبه).
          فائدةٌ شاردةٌ: روى أحمد بن مُحَمَّد المخرميُّ عن عبد العزيز بن الرَّمَّاح، عن ابنِ عُيَينة، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عنِ ابنِ عبَّاس قال: لمَّا قَتَل ابنُ آدم أخاه؛ قال آدمُ ◙(4): [من الوافر]
تَغيَّرتِ البِلَادُ وَمَنْ عَلَيهَا                     فَوَجْهُ(5) الأَرضِ مُغْبَرٌ قَبِيحُ(6)
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَونٍ                     وَقَلَّ بَشَاشَةَ الوَجْهُ المَلِيحُ
قَتَلْ قَابِيلُ هَابِيلًا أَخَاهُ                     فَوَا حَزَنًا مَضَى الوَجْهُ الصَّبيحُ(7)
          فأجابه إبليس: [من الوافر]
تَنَحَّ عَنِ البِلَادِ وَسَاكِنِيهَا(8)                      فَبِي فِي الخُلْدِ ضَاقَ بِكَ الفَسِيحُ
          رواه(9) عنه أبو البختري عبد الله بن مُحَمَّد بن شاكر، وسمعه من أبي البختري إسماعيلُ بن العبَّاس الورَّاق، قال الذَّهبيُّ في «ميزانه»: (فالآفة المخرميُّ أو شيخُه، والله أعلم)، انتهى، قال الثعلبيُّ: قال ابن عبَّاس: (مَن قال: إنَّ آدم قال شِعْرًا؛ فقد كذب على الله وعلى رسوله، إنَّ الأنبياء كلَّهم في النهي سواء نبيِّنا فمَن قبله)، وذكر الثعلبيُّ قبل هذا المكان الاختلافَ في المكان الذي قُتِلَ به.
          قوله: (أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ): قال شيخنا: (هذا جارٍ في الخير والشَّرِّ، كما في «الصحيح»: «من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً...»؛ الحديث)، قال شيخنا: (وهذا _والله أعلم_ ما لم يَتُبْ ذلك الفاعلُ الأوَّلُ من تلك المعصية؛ لأنَّ التَّائب من الذنب كمن لا ذنب له(10)) انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ، ويحتاج إلى زيادة تأمُّلٍ، ذَكَرَ ذلك في (كتاب الأنبياء).


[1] في (ب): (بقوله).
[2] في (ب): (سبب)، وليس بصحيح.
[3] في (ب): (جرام).
[4] زيد في (ب): (قوله).
[5] في (ب): (ووجه).
[6] في (ج): (فسيح).
[7] زيد في (ب): (ويا أسفًا على هابيل ابني~ قتيل قد تضمنه الضريح).
[8] في (ج): (وساكنتها).
[9] في (ج): (روى).
[10] (له): سقط من (ب).