التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا سلم في ركعتين أو ثلاث فسجد سجدتين

          ░3▒ بابُ إذا سَلَّمَ في رَكْعَتَينِ أَوْ في ثَلَاثٍ، سَجَدَ سَجْدَتَينِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاة أو أَطْوَلَ.
          1227- ذَكَر فيه حديثَ أبي سَلَمةَ عن أبي هُرَيرةَ: (صَلَّى بِنَا رسولُ اللهِ صلعم الظُّهْرَ _أَوِ العَصْرَ_ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ...) الحديث.
          وقد سلف في باب: هل يأخذ الإمام إذا شكَّ بقول النَّاس. وأخرجه أيضًا النَّسائيُّ، وقال: لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث: (ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ) غير سعد بن إبراهيمَ، يعني: الراوي عن أبي سَلَمةَ.
          قال البيهقيُّ: ويحيى بنُ أبي كثيرٍ لم يحفظ سجدتَي السهو عن أبي سَلَمةَ، وإنَّما حفظهما عن ضَمْضَم بن جَوْسٍ، عن أبي هُرَيرةَ، وقد حفظهما سعد بن إبراهيمَ، عن أبي سَلَمةَ، ولم يحفظهما الزُّهريُّ لا عن أبي سَلَمةَ، ولا عن جماعةٍ حدَّثوه بهذه القِصَّة عن أبي هُرَيرةَ. ثمَّ ذكر اختلافًا فيه عنه.
          وقوله في آخر الحديث: (قَالَ سَعْدٌ: وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبير صَلَّى مِنَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رسول الله صلعم).
          قال أبو بكرٍ بن أبي شَيبةَ: حدَّثنا غُندَر عن شُعْبَةَ عن سعدٍ. فذكره.
          وقال أبو نُعَيمٍ: رواه _يعني: البخاريَّ_ عن آدمَ عن شُعْبَةَ وزاد: (قَالَ سَعْدٌ: وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ...) إلى آخره. وأورده الإسماعيليُّ مِن طريق معاذٍ ويحيى، عن شُعْبَةَ، حدَّثنا سعدُ بن إبراهيمَ: <سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرةَ...> الحديث. ثمَّ قال في آخره: رواه غُنْدَر: <فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ>. لم يقل: ثمَّ سَلَّم ثمَّ سجد. ثمَّ قال: لم يتضمَّنُ هذا الحديث ما ذكره في الترجمة، وخرَّج ما ذكره مِن ترجمة هذا الباب في الباب الذي يليه. وكذا قال ابن التِّين: لم يأتِ في الحديث بشيءٍ ممَّا يشهد للسلام مِن ثلاثٍ، وقد قال سُحنُون: إنَّما يجوز ذلك لمن سلَّم مِن ثنتين على مثل خبر ذي اليدين.
          وكذا قوله: (فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلاة أَوْ أَطْوَلَ) لم يأت فيه بشيءٍ، لكن في الباب الذي بعده: فسجد مثل سجوده أو أطول.
          وذكرَ السلامَ مِن الثلاث مسلمٌ مِن حديث عِمرانَ في حديث ذي اليدين، فأشار إليه في الترجمة كما فعل في باب: إذا أُقيمت الصَّلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبةَ. لم يذكره كذلك وإنَّما أشار إليه فيها.
          وقوله: (الظُّهْرَ أَوِ العَصْرَ) بيَّن في «الموطَّأ» أنَّها العصر، وفي البخاريِّ في كتاب الأدب أنَّها الظهر، وفي رواية: ((إحدى صلاتَي العشي)) وفي كتاب أبي الوليد: ((إحدى صلاتي العِشاء)). ولعلَّه غلطٌ مِن الكاتب.
          وقوله: (فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ) اسمه الخِرْباق، وقد سلف، وهذا على باب الإنكار لفعلِه مع أنَّه شرَّعَ الشرائع، وعنه تُؤخذ، إلَّا أنَّه جوَّزَ عليه النسيان، وجوَّز أن يكون حَدَث فيها تقصيرٌ، فطلب منه بيانَ ذلك، فصادف سؤاله مِن رسول الله صلعم يقينًا أنَّ صلاته كمُلت أو شَكًّا في ذلك.
          وقوله: (فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ؟) يحتمل أن يقوله وهو متيقِّنٌ كمالَ صلاتِه فيستشهد على ردِّ قول ذي اليدين بقولهم، وبيَّن هذا بقوله في الخبر الآخر: ((كلُّ ذلك لم يكن)) تيقُّنًا منه لكمال صلاته، ولو شكَّ في تمامها لأخذ مِن الإتيان بما شكَّ فيه، فلمَّا أخبروه بتصديق قول ذي اليدين طرأ عليه الشكُّ فأخذ في التمام. ويحتمل أن يقوله وهو شاكُّ في تمامها بقول ذي اليدين، فأراد اليقين، وجاز له الكلام مع الشكِّ، لأنَّه تيقَّنَ كمالها وحدوث الشكِّ بعده، فوجب الرجوع إليها، وهذا أصلٌ مختلف فيه للمالكيَّةِ يردُّ لأصحابهم مسائلَ منه اختلفوا فيها.
          قال ابن حبيبٍ: إذا سلَّم الإمامُ على يقينٍ ثمَّ شكَّ بَنى على يقينه، وإن سأل مَن خلفَه فأخبروه أنَّه لم يُتِمَّ فقد أحسن، ولْيُتِمَّ ما بقي وتجزئهم. ولو كان الفذُّ سلَّم مِن اثنتين على يقين ثمَّ شكَّ، فقال أصبغ: لا يسأل مَن خلفه، فإن فعل فقد أخطأ بخلاف الإمام الذي يلزمه الرجوع إلى يقين مَن معه. فهذه المسألة مبنيَّةٌ على أنَّ الشكَّ بعد السلام على اليقين مؤثرٌ يوجب الرجوع إلى الصَّلاة، إلَّا أنَّهم لم يجعلوا ذلك كمَن شكَّ داخَل الصَّلاة لأنَّه لو شكَّ ذا قبل السلام لم يَجُز له أن يسأل أحدًا، فإن فعل استأنف، قاله ابن حبيبٍ. وكذا لو سلَّم على شكٍّ ثمَّ سألهم. وقيل: يجزئه.
          وقوله: (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَاوَيْنِ) كذا وقع في أكثر الروايات، وصوابه: <أُخْرَيَيْن> وكذا وقع في بعضها، نبَّه عليه ابن التِّين.
          فرع في التكبير للرجوع: قال ابن نافعٍ: إن لم يكبِّر بطَلت صلاته لأنَّه خرج منها بالسلام.
          وقال ابن القاسم عن مالكٍ: كلُّ مَن جاز له البناء بعد الانصراف لقرب ذلك فليراجع بإحرام.
          ومتى يكبِّر؟ قال ابن القاسم: يكبِّر ثم يجلس. وقال غيره: يُحرم وهو جالس، فإن لم يدخل بإحرام ففي الفساد قولان، قال الأَصِيليُّ: ورجوعه بِنِيَّةٍ يجزئه عن ابتداء الإحرام كما فعل الشارع. /
          تنبيه: نقل ابن التِّين عن القاضي أنَّه قال في «إشرافه»: اجتمع على الشَّارع أشياء مِن السهو: كلامُه، وسلامُه مِن اثنتين، واستثباتُه، فسجد لهنَّ سجودًا واحدًا فصار فيه حجة إذا وجب عليه سجود يكفيه سجدتان وإن كثر، وقال الأوزاعيُّ وعبد العزيز: إذا وجب عليه سجودٌ قبلُ وسجودٌ بعدُ سجَدَهما جميعًا.
          ثمَّ ما ترجم به البخاريُّ ردٌّ على أهل الظاهر في قولهم: أنَّه لا يسجد أحدٌ مِن السهو إلَّا في المواضع الخمسة التي سجد فيها الشارع: وهو السلام مِن ثنتين على حديث ذي اليدين، والقيام مِن ثنتين على حديث ابن بُحَينة إلَّا أنَّه يجعل السجود في ذلك بعد السلام، أو مَن صلَّى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعودٍ، وفي البناء على اليقين على حديث أبي سعيد الخُدريِّ، وفي التحرِّي على حديث ابن مسعودٍ.
          وجماعة الفقهاء يقولون: إنَّ مَن سلَّم في ثلاث ركعاتٍ أو قام في ثلاثٍ، أو نقص مِن صلاته ما لَه بالٌ، أو زاد فيها فعليه سجود السهو لأنَّه صلعم علَّم الناس في السلام مِن ثِنتين والقيامِ منها وزيادةِ خامسةٍ، وفي البناء على اليقين والتحرِّي سجودَ السهو ليستعملوا ذلك في كلِّ سهوٍ يكون في معناه.
          واحتجُّوا في ذلك أيضًا بحديث ابن مسعودٍ: أنَّه صلعم قال: ((إذا شكَّ أحدكم في الصَّلاة فليتحرَّ الصوابَ، فليتمَّ عليه ثمَّ ليسجد سجدتين)) فأمر الشَّارع بالسجود لكلِّ سهوٍ، وهو عامٌّ إلَّا أن يقوم دليلٌ.
          وفي قِصَّة ذي اليدين مِن الفقه: أنَّ اليقين لا يجب تركه بالشكِّ حتى يأتي بيقينٍ يزيلُه، ألا ترى أنَّ ذا اليدين كان على يقين مِن أنَّ فرض صلاتهم تلك أربع ركعاتٍ، فلمَّا أتى بها على غير تمامها، وأمكن القصرُ مِن جهة الوحي، وأمكن النسيانُ لزمه أن يستفهم حتى يُصيِّره إلى يقينٍ يقطع به الشكَّ.
          وفيه أيضًا: أنَّ مَن سلَّم ساهيًا في صلاته وتكلَّم وهو يظنُّ أنَّه قد أتمَّها، فإنَّه لا يضرُّه ذلك ويبني على صلاته. واختلف قول مالكٍ كيف يرجع المصلِّي إلى إصلاح صلاته؟ فقال في «المدوَّنة»: كلُّ مَن رجع لإصلاح ما بقي عليه مِن صلاتِه فليرجع بإحرام. وقال في رواية ابن وهبٍ: إنَّه إن لم يكبِّر فلا يضرُّه ذلك مع إمامٍ كان أو وحده. وقال ابن نافعٍ: إن لم يدخل بإحرامٍ أفسَدَ صلاته على نفسه وعلى مَن خلفه إن كان إمامًا.
          وقال الأَصِيليُّ: رواية ابن وهبٍ هي القياس لأنَّ رجوعَه إلى صلاته بنيَّةٍ تجزئه مِن ابتداء إحرامٍ كما فعل الشارع، وهذا أسلفناه عنه. وقال غيره: إن لم يُكبِّر في رجوعِه لا شيء عليه، ثمَّ هو حُجَّةٌ للشافعيِّ ومالكٍ في عدم إبطال الصَّلاة بالكلام ناسيًا خلافًا لأبي حنيفةَ وأصحابهِ والثَّوريِّ والنَّخَعيِّ وقَتَادةَ.
          وابنُ وهبٍ وابن كِنانةَ المالكيَّان قالا: إنَّما كان حديث ذي اليدين في بدء الإسلام، ولا أرى لأحدٍ أن يفعله اليوم، والعمد لمصلحة الصَّلاة يبطلها عندنا، خلافًا لمالكٍ.
          وقال الأوزاعيُّ: إن تكلَّم لفرضٍ يجب عليه لم تفسد صلاته، وإن كان لغير ذلك فسدت والفرضُ عليه ردُّ السلام، أو أن يرى أعمى يقع في بئرٍ فينهاه.